الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
(الفصل الحادي والعشرون)

وهو خاتمة الفصول: في الاعتذار عن المصنف في إيثاره الرخصة والسعة في النقل والرواية في كتابه هذا من الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم الآثار عن الأصحاب، وعن التابعين وتابعيهم، ثم عمن بعدهم من متقدمي السلف، فإنه يتفق له في سياقه مخالفة الألفاظ، والتقديم والتأخير، والزيادة والنقص، مع موافقة المعنى، ولم يعتبر -رحمه الله تعالى- في بعض المواضع ألفاظ الأخبار والآثار؛ إذ لم يكن تحرير الألفاظ عنده واجبا إذا أتى بالمعنى بعد علمه بتصريف الكلام، وبتفاوت وجوه المعاني واجتنابه لما يكون به تحريف أو إحالة بين لفظتين .

وقد رخص في سوق الحديث بالمعنى دون سياقه على اللفظ جماعة، منهم علي وابن عباس وأنس بن مالك، وأبو الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وأبو هريرة -رضي الله عنهم- ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم، منهم إمام الأئمة الحسن البصري، ثم الشعبي، وعمرو بن دينار، وإبراهيم النخعي، ومجاهد وعكرمة، نقل ذلك عنهم في كتب سيرهم بأخبار مختلفة الألفاظ .

وقال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد والألفاظ مختلفة .

وكذلك اختلفت ألفاظ الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من يرويه تاما، ومنهم من يأتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصرا، وبعضهم يغاير بين اللفظين، ويراه واسعا، إذا لم يخالف المعنى، وكلهم لا يتعمد الكذب، وجميعهم يقصد الصدق ومعنى ما سمع؛ فلذلك وسعهم، وكانوا يقولون: إنما الكذب على من تعمده .

وقد روي عن عمران بن مسلم قال: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنك تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقا، وأجود تحبيرا، وأفصح به لسانا منه إذا حدثنا به، فقال: إذا أصبت المعنى فلا بأس بذلك .

وقد قال النضر بن شميل: كان هشيم لحانا فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة -يعني بالإعراب- وكان النضر نحويا .

وكان سفيان يقول: إذا رأيتم الرجل يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس فاعلم أنه يقول: اعرفوني، قال: وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه، فقال له يحيى: يا هذا ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى، قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد .

وفي شرح التقريب للحافظ السيوطي في النوع السادس والعشرين في الفرع الرابع منه ما نصه -مع بعض اختصار-: إن لم يكن الراوي عالما بالألفاظ خبيرا بما يحيل معانيها لم تجز له الرواية لما سمعه بالمعنى، بلا خلاف، بل يتعين اللفظ الذي سمعه، فإن كان عالما بذلك فقالت طائفة من أهل الحديث والفقه والأصول: لا يجوز إلا بلفظه، وإليه ذهب ابن سيرين وثعلب، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وروي عن ابن عمر، وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف منهم الأئمة الأربعة: يجوز بالمعنى في جميع ذلك إذا قطع بأداء المعنى; لأن ذلك هو الذي يشهد به أحوال الصحابة والسلف، ويدل عليه روايتهم اللفظة الواحدة بألفاظ مختلفة .

وقد ورد في المسألة حديث مرفوع رواه ابن منده في معرفة الصحابة، والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن سليمان بن أكثم الليثي قال: قلت: "يا رسول الله، إني إذا سمعت منك الحديث لا أستطيع أن أرويه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفا، فقال: إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا، وأصبتم المعنى فلا بأس" فذكر ذلك للحسن فقال: لولا هذا ما حدثنا، وقد استدل الشافعي لذلك بحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف".

وروى البيهقي عن مكحول قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس فيه وهم، ولا تزيد، ولا نسيان، فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا؟ فقلنا: نعم، وما نحن له بحافظين جدا، إنا لنزيد الواو والألف وننقص، قال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظا [ ص: 49 ] وإنكم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عسى أن لا يكون سمعنا لها منه إلا مرة واحدة، حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى .

وأسند أيضا في المدخل عن جابر بن عبد الله قال: قال حذيفة: إنا قوم عرب، نورد الحديث فنقدم ونؤخر .

وأسند أيضا عن شعيب بن الحجاب قال: دخلت أنا وعبدان على الحسن، فقلنا: يا أبا سعيد، الرجل يحدث بالحديث فيزيد فيه أو ينقص منه، قال: إنما الكذب من تعمد ذلك .

وأسند أيضا عن جرير بن حازم، قال: سمعت الحسن يحدث بأحاديث الأصل واحد والكلام مختلف .

وأسند عن ابن عون قال: كان الحسن وإبراهيم والشعبي يأتون بالحديث على المعاني .

وأسند عن أويس، قال: سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث، فقال: هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث، وإذا أصيب معنى الحديث فلم يحل به حراما ولم يحرم به حلالا فلا بأس. ونقل ذلك سفيان عن عمرو بن دينار.

وأسند عن وكيع، قال: إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس. اهـ ما تعلق الغرض به .

وقوله في أول سياقه: "منهم الأئمة الأربعة" أي أئمة المذاهب، والمشهور عن إمامنا الأعظم أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- عند الأصحاب أنه لا يجوز نقل الحديث إلا باللفظ دون المعنى، قالوا: وبهذا الاعتبار قلت روايته للحديث .

وروينا عن الإمام أبي جعفر الطحاوي أنه قال: حدثنا ابن شعيب، حدثنا أبي، قال: أملى علينا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: لا ينبغي للرجل أن يحدث من الحديث إلا بما حفظه من يوم سمعه إلى يوم يحدث به، وهكذا ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة الإمام من تاريخه عن أبي يوسف عنه، فافهمه؛ فإن إطلاقه في العبارة ربما يوهم خلاف ما ذكرناه .

وإليه ذهب القاضي عياض من المالكية حيث قال فيما نقله السيوطي في شرح الكتاب المذكور: ينبغي سد باب الرواية بالمعنى; لئلا يتسلط من لا يحسن ممن يظن أنه يحسن، كما وقع للرواة كثيرا قديما وحديثا. وعلى الجواز الأولى إيراد الحديث بلفظه دون التصرف فيه .

ثم إن المصنف قد روى في كتابه هذا مراسيل ومقاطيع، ومنها ما في سنده مقال، وربما كان المقطوع والمرسل أصح من بعض المسند؛ إذ رواه الأئمة، وجاز لهم رسم ذلك في الورع لمعان:

أحدها يقول: إنا لسنا على يقين من باطلها .

والثاني يقول: إن معنا حجة بذلك، وهو رواية أصحاب الحديث له، وهم قد سمعوه، فإن أخطئوا الحقيقة عند الله تعالى فذلك ساقط عنهم .

والثالث يقول: إن الأخبار الضعاف غير مخالفة للكتاب والسنة، فلا يلزمنا ردها، بل فيهما ما يدل عليها .

والرابع يقول: إنا متعبدون بحسن الظن، منهيون عن كثير من الظن .

والخامس يقول: إنه لا يتوصل إلى حقيقة ذلك إلا من طريق المعاينة، ولا سبيل إليها، فاضطررنا إلى التقليد والتصديق لحسن الظن بالنقلة مع ما تسكن إليه قلوبنا، وتلين له أبشارنا، ونرى أنه حق كما جاء في الخبر .

ويقول أيضا: إنه ينبغي أن نعتقد في سلفنا المؤمنين أنهم خير منا، ثم يقول: نحن لا نكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا على التابعين، فكيف يظن بهم أن يكذبوا، وهم فوقنا؟!

على أنه قد جاءت أحاديث ضعاف بأسانيد صحاح، فكذلك يصلح أن ترد أحاديث صحاح بسند ضعيف؛ لاحتمال أن يكون قد روي من وجه صحيح؛ إذ لم نحط بجملة العلم، أو لأن بعض ما تضعف به رواه الحديث، وتعطل به أحاديثهم لا يكون تعليلا ولا جرحا عند الفقهاء، ولا عند العلماء بالله تعالى، مثل أن يكون الراوي مجهولا لإيثاره الخمول، وقد ندب إليه، أو لقلة الأتباع له؛ إذ لم يقسم لهم الأثرة عنه، أو ينفرد بلفظ أو حديث حفظه أو خص به دون غيره من الثقات، أو يكون غير سائق للحديث على لفظه، أو لا يكون معنيا بدرسه وحفظه، أو يسمع منه كلام لا يجرحه عند الفقهاء علله به بعض المجرحين من الرواة، وإن بعض من يضعفه أصحاب الحديث هو من علماء الآخرة، ومن أهل المعرفة بالله تعالى، وله في الرواية والحديث مذهب غير طريقة بعض أصحاب الحديث، فيعمل في روايته بمذهبه فلا يكون أصحاب الحديث حجة عليه بل هو حجة عليهم؛ إذ ليس هو عند أصحابه من العلماء دون أصحاب الحديث، فمن ضعفه إذ رأى غير مذهبه .

[ ص: 50 ] وقد يتكلم بعض الحفاظ كابن الجوزي وأضرابه بالإقدام والجراءة، فيجاوز الحد في الجرح، ويتعدى في اللفظ، ويكون المتكلم فيه أفضل منه، وعند العلماء بالله تعالى أعلى درجة، فيعود الجرح على الجارح، وإن بعض من يضعفه أهل الحديث يقويه بعضهم، وبعض من يجرحه ويذمه واحد يعد له ويمدحه آخر، فصار مختلفا فيه، فلم يرد حديثه بقول واحد دون من فوقه أو مثله .

وقال بعض العلماء: الحديث وإن كان شهادة فقد وسع فيه بحسن الظن كما جوز فيه قبول شاهد واحد، أي للضرورة، كشهادة القابلة ونحوها، ويروى بمعناه عن الإمام أحمد، والحديث إذا لم ينافه كتاب أو سنة، وإن لم يشهدا له، أو لم يخرج تأويله عن إجماع الأمة، فإنه يوجب القبول والعمل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كيف وقد قيل" والحديث الضعيف عن الإمام أحمد آثر من الرأي والقياس .

وقال محمد بن حزم: جميع الحنفية مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي، نقله الذهبي.

والحديث إذا تداوله عصران، أو رواه القرون الثلاثة، أو دار في العصر الواحد، ولم ينكره علماؤه، أو كان مشهورا لا ينكره الطبقة من المسلمين احتمل، ووقع به حجة، وإن كان في سنده قول، إلا ما خالف الكتاب والسنة الصحيحة، أو إجماع الأمة، أو ظهر كذب ناقليه بشهادة الصادقين من الأئمة، وذكر رجل عند الزهري حديثا قال: ما سمعنا بهذا فقال: أكل حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمعت؟ قال: لا، قال: فثلثاه؟ قال: لا، قال: فنصفه؟ فسكت، فقال: عد هذا من النصف الذي لم تسمعه، نقله صاحب القوت، وهو في الحلية لأبي نعيم في ترجمة الزهري.

وأخرج ابن عساكر في التاريخ في ترجمة أبي سهيل نافع بن مالك عم مالك بن أنس من رواية أبي أسامة، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن سعيد الهاشمي عنه، قال: قلت للزهري: أما بلغك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من طلب شيئا من هذا العلم الذي يراد به وجه الله ليطلب به شيئا من عرض الدنيا دخل النار"؟ فقال الزهري: لا، ما بلغني هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت له: وكل حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغك؟ قال: لا، قلت: فنصفه؟ قال: عسى، قلت: فهذا من النصف الذي لم يبلغك .

وقال وكيع بن الجراح: ما ينبغي لأحد أن يقول: هذا الحديث باطل; لأن الحديث أكثر من ذلك .

وقال أبو داود: قال أبو زرعة الرازي: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عشرين ألف عين نظرته، كل واحد قد روى عنه ولو حديثا ولو كلمة .. رواية، فحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من ذلك .

قال أحمد بن حنبل: كان يزيد بن هارون يكتب عن الرجل، ويعلم أنه ضعيف، وكان له ذكاء وعلم بالحديث .

وقال إسحاق بن راهويه: قيل لأحمد: هذه الفوائد التي فيها المناكير ترى أن يكتب الجيد منها؟ فقال: المنكر أبدا؛ منكر، قيل: فالضعفاء؟ قال: يحتاج إليهم في وقت، كأنه لم ير بالكتابة عنهم بأسا .

وقال أبو بكر المروزي عنه: إن الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه .

ومما يدلك على مذهبه في التوسعة أنه أخرج حديثه كله في المسند المأثور عنه، ولم يعتبر الصحيح منه، وفيه أحاديث يعلم النقاد أنها ضعيفة، وهو أعلم بضعفها منهم، ثم أدخلها في مسنده؛ لأنه أراد تخريج المسند، ولم يقصد صحيح السند، فاستجاز روايتها .

وقد أخرج ابن الجوزي بعضا منها في الموضوعات، وافقه على بعضها الحافظ العراقي في جزء لطيف، ورد عليهما تلميذه الحافظ ابن حجر، فأوسع الكلام على تلك الأحاديث التي طعن عليها ابن الجوزي في جزء سماه "القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد" كلاهما عندي، وكان الإمام أحمد قد قطع أن يحدث الناس في سنة ثمان وعشرين، وتوفي سنة إحدى وأربعين، فلم يسمع أحد منه في هذه المدة إلا ابن منيع جزءا واحدا بشفاعة جده أحمد بن منيع .

ويروى عنه قال: كان عبد الرحمن ينكر الحديث، ثم يخرج إلينا بعد في وقت فيقول: هو صحيح قد وجدته .

قال: وأما وكيع فلم يكن ينكر، ولكن كان يقول إن سئل عنه: لا أحفظ .

ويروى عن ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي قال: كان خالي قد خط على أحاديث، ثم صحح عليها بعد ذلك، وقرأتها عليه، فقلت: قد كنت خططت عليها، فقال: نعم، ثم تفكرت أني إذا ضعفتها أسقطت عدالة ناقلها، فإن جاثاني بين يدي الله [ ص: 51 ] تعالى، وقال لي: أسقطت عدالتي! رأيتني؟! سمعت كلامي؟! لم يكن لي حجة. كان هذا مذهب الورعين من السلف .

وقال بعضهم في تضعيف الرواة: إن خلصت نيتك، يعني: إن أردت الله تعالى والدين بذلك لم يكن لك ولا عليك .

فهذا الذي ذكرت لك هو أصل في معرفة الحديث، وهو علم لأهله، وطريق هم سالكوه، وما قصدت بذلك الإزراء ولا التنقيص لمقام أصحاب الحديث، كلا والله، بل إني محب لهم، ومعتقد حسن طريقتهم، وإنما أوسعت في الكلام ليظهر بذلك علو نظر الإمام أبي حامد، وأن أكثر ما قيل فيه من جهة إيراده الأحاديث الضعيفة في كتابه غير متجه؛ إذ مقصده جميل لا يتعدى عن حسن الظن بهؤلاء الذين رووها في كتبهم، ونقل هو عن تلك المصنفات، والله تعالى يجعل ما كتبته خالصا لوجهه الكريم، ومقربا إلى جنات النعيم، آمين آمين آمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية