الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 363 ] قصة الذبيح عليه السلام

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الله تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ الصافات : 99 - 113 ] . يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا فبشره الله تعالى بغلام حليم ، وهو إسماعيل عليه السلام ؛ لأنه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل ، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل أنه أول ولده وبكره . وقوله : فلما بلغ معه السعي أي شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه . قال مجاهد : فلما بلغ معه السعي أي شب وارتحل ، وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل ، فلما كان هذا أري إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعا . رؤيا الأنبياء وحي . قاله [ ص: 364 ] عبيد بن عمير أيضا . وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر ، وقد طعن في السن بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر ، وواد ليس به حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع ، فامتثل أمر الله في ذلك ، وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلا عليه فجعل الله لهما فرجا ومخرجا ، ورزقهما من حيث لا يحتسبان ، ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا ، الذي قد أفرده عن أمر ربه ، وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره أجاب ربه وامتثل أمره وسارع إلى طاعته ، ثم عرض ذلك على ولده ؛ ليكون أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قسرا ويذبحه قهرا ، قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى . فبادر الغلام الحليم يبر والده الخليل إبراهيم ، فقال : يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين . وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد . قال الله تعالى : فلما أسلما وتله للجبين . قيل : أسلما أي استسلما لأمر الله وعزما على ذلك . وقيل : هذا من المقدم والمؤخر ، والمعنى تله للجبين أي ألقاه على وجهه . قيل : أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال ذبحه . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والضحاك . وقيل : بل أضجعه كما تضجع الذبائح ، وبقي طرف جبينه لاصقا بالأرض ، وأسلما أي سمى إبراهيم وكبر وتشهد وسلم الولد للموت . قال السدي وغيره : أمر السكين على حلقه فلم [ ص: 365 ] تقطع شيئا . ويقال : جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس . والله أعلم . فعند ذلك نودي من الله عز وجل :أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك وبذلك ولدك للقربان ، كما سمحت ببدنك للنيران ، وكما مالك مبذول للضيفان ؛ ولهذا قال تعالى : إن هذا لهو البلاء المبين . أي الاختبار الظاهر البين . وقوله : وفديناه بذبح عظيم . أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه ، والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن رآه مربوطا بسمرة في ثبير . قال الثوري : عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا . وقال سعيد بن جبير : كان يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير ، وكان عليه عهن أحمر . وعن ابن عباس : هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه ، وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه . رواه ابن أبي حاتم . قال مجاهد : فذبحه بمنى . وقال عبيد بن عمير : ذبحه بالمقام . فأما ما روي عن ابن عباس أنه كان وعلا ، وعن الحسن أنه كان تيسا من الأروى واسمه جرير فلا يكاد يصح عنهما ، ثم غالب ما هاهنا من الآثار مأخوذ من الإسرائيليات ، وفي القرآن كفاية عما جرى من الأمر العظيم والاختبار الباهر وأنه فدي بذبح عظيم . [ ص: 366 ] وقد ورد في الحديث أنه كان كبشا ، قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا منصور ، عن خاله مسافع ، عن صفية بنت شيبة قالت أخبرتني امرأة من بني سليم ، ولدت عامة أهل دارنا قالت : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة . وقال مرة : إنها سألت عثمان لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي . قال : سفيان لم تزل قرنا الكبش في البيت حتى احتراق البيت فاحترقا . وهكذا روي عن ابن عباس أن رأس الكبش لم يزل معلقا عند ميزاب الكعبة قد يبس ، وهذا وحده دليل على أن الذبيح إسماعيل ؛ لأنه كان هو المقيم بمكة وإسحاق لا نعلم أنه قدمها في حال صغره ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو الظاهر من القرآن ، بل كأنه نص على أن الذبيح هو إسماعيل ؛ لأنه ذكر قصة الذبيح ، ثم قال بعده : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين . ومن جعله حالا فقد تكلف ، ومستنده أنه إسحاق إنما هو إسرائيليات ، وكتابهم فيه تحريف ، ولا سيما هاهنا قطعا لا محيد عنه فإن عندهم أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة من المعربة : بكره إسحاق فلفظة إسحاق هاهنا مقحمة مكذوبة مفتراة ؛ لأنه ليس هو الوحيد ولا البكر وإنما الوحيد البكر إسماعيل ، وإنما حملهم على هذا حسد العرب فإن إسماعيل أبو العرب الذين يسكنون الحجاز الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإسحاق والد يعقوب ، وهو إسرائيل الذين ينتسبون إليه ، [ ص: 367 ] فأرادوا أن يجروا هذا الشرف إليهم فحرفوا كلام الله وزادوا فيه وهم قوم بهت ، ولم يقروا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، وقد قال بأنه إسحاق طائفة كثيرة من السلف ، وغيرهم ، وإنما أخذوه والله أعلم من كعب الأحبار أو صحف أهل الكتاب ، وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى نترك لأجله ظاهر الكتاب العزيز ولا يفهم هذا من القرآن ، بل المفهوم بل المنطوق بل النص عند التأمل على أنه إسماعيل ، وما أحسن ما استدل محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل ، وليس بإسحاق من قوله : فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قال : فكيف تقع البشارة بإسحاق وأنه سيولد له يعقوب ، ثم يؤمر بذبح إسحاق وهو صغير قبل أن يولد له ؟ هذا لا يكون ؛ لأنه يناقض البشارة المتقدمة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد اعترض السهيلي على هذا الاستدلال بما حاصله أن قوله : فبشرناها بإسحاق جملة تامة . وقوله : ومن وراء إسحاق يعقوب . جملة أخرى ليست في حيز البشارة ، قال : لأنه لا يجوز من حيث العربية أن يكون مخفوضا إلا أن يعاد معه حرف الجر فلا يجوز أن يقال مررت بزيد ومن بعده عمرو حتى يقال ومن بعده بعمرو . وقال فقوله : ومن وراء إسحاق يعقوب . منصوب بفعل مضمر تقديره ووهبنا لإسحاق يعقوب ، وفي هذا الذي قاله نظر ، ورجح أنه إسحاق واحتج بقوله : فلما بلغ معه السعي . قال : وإسماعيل لم يكن عنده إنما كان في حال صغره هو وأمه بحيال مكة فكيف يبلغ معه السعي ؟ وهذا أيضا فيه نظر ؛ لأنه قد روي أن الخليل كان يذهب في كثير من الأوقات [ ص: 368 ] راكبا البراق إلى مكة يطلع على ولده وابنه ، ثم يرجع ، والله أعلم . فمن حكي القول عنه بأن الذبيح إسحاق كعب الأحبار . وروي عن عمر ، والعباس ، وعلي ، وابن مسعود ، ومسروق ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، ومقاتل ، وعبيد بن عمير ، وأبي ميسرة ، وزيد بن أسلم ، وعبد الله بن شقيق ، والزهري ، والقاسم بن أبي بزة ، ومكحول ، وعثمان بن حاضر ، والسدي ، والحسن ، وقتادة ، وأبي الهذيل ، وابن سابط ، وهو اختيار ابن جرير ، وهذا عجب منه ، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، ولكن الصحيح عنه ، وعن أكثر هؤلاء أنه إسماعيل عليه السلام قال مجاهد ، وسعيد والشعبي ، ويوسف بن مهران ، وعطاء ، وغير واحد ، عن ابن عباس : هو إسماعيل عليه السلام . وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن قيس ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس أنه قال : المفدي إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحاق ، وكذبت اليهود . وقال عبد الله بن الإمام أحمد ، عن أبيه هو إسماعيل ، وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن الذبيح فقال : الصحيح أنه إسماعيل عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن أبي حاتم : وروي عن علي ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وأبي الطفيل ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، [ ص: 369 ] والشعبي ، ومحمد بن كعب ، وأبي جعفر محمد بن علي ، وأبي صالح أنهم قالوا : الذبيح هو إسماعيل عليه السلام ، وحكاه البغوي أيضا عن الربيع بن أنس ، والكلبي ، وأبي عمرو بن العلاء . قلت : وروي عن معاوية ، وجاء عنه أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ابن الذبيحين ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ، ومحمد بن إسحاق بن يسار ، وكان الحسن البصري يقول : لا شك في هذا . وقال محمد بن إسحاق : عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي ، عن محمد بن كعب أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام يعني استدلاله بقوله بعد القصة : فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب . فقال له عمر : إن هذا الشيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت ، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه ، وكان يرى أنه من علمائهم قال : فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك - قال محمد بن كعب : وأنا عند عمر بن عبد العزيز - فقال له عمر بن عبد العزيز : أي ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل والله يا أمير المؤمنين ، وإن يهود لتعلم [ ص: 370 ] بذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به ، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق ؛ لأن إسحاق أبوهم . وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة بأدلتها ، وآثارها في كتابنا التفسير ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية