الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 123 ]

                وبالثاني :

                الأصول : الأدلة الآتي ذكرها ، وهي جمع أصل ، وأصل الشيء ما منه الشيء ، وقيل : ما استند الشيء في وجوده إليه ، ولا شك أن الفقه مستمد من أدلته ، ومستند في تحقق وجوده إليها .

                التالي السابق


                قوله : " وبالثاني " : أي وأصول الفقه بالاعتبار الثاني ، وهو تعريفه باعتبار كل واحد من مفرداته [ الأصول الأدلة ] ، لأن المادة التي تركب منها لفظ أصول الفقه ، هي الأصول والفقه ، فهما مفردا ذلك المركب ، فيحتاج في تعريفه التفصيلي إلى تعريف كل واحد منهما على حدته .

                فالأصول : " الأدلة الآتي ذكرها " يعني : الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، وما في خلال ذلك من القواعد الأصولية .

                قوله : " وهي " : يعني الأصول ، " جمع أصل " ، هذا بيان لها من حيث جمعها وإفرادها ، وما كان من الأسماء على فعل - ساكن العين - فبابه في جمع القلة على أفعل ، نحو أفلس وأكلب ، وفي الكثرة على فعال وفعول ، نحو حبل وحبال ، وكلب وكلاب ، وكعب وكعاب ، وفصل وفصول ، وأصل وأصول ، وفرع وفروع .

                وأما من حيث اشتقاقه اللغوي ، فلم أر فيه شيئا فيما وقفت عليه ، غير أني أحسب أنه من الوصل ضد القطع ، وأن همزته منقلبة عن واو ، لما في الأصل من معنى الوصل ، وهو اتصال فروعه ، كاتصال الغصن بالشجرة حسا ، والولد بوالده نسبا وحكما ، والحكم الشرعي بدليله عقلا .

                قوله : " وأصل الشيء ما منه الشيء ، وقيل : ما استند الشيء في وجوده إليه " . [ ص: 124 ]

                هذان تعريفان للأصل ، فالأول ذكره في " الحاصل " ، والثاني هو معنى قول الآمدي : أصل كل شيء : ما يستند تحقق ذلك الشيء إليه ، وزاد في غير " المنتهى " : من غير تأثير احترازا من استناد الممكن إلى المؤثر ، مع أنه ليس أصلا له .

                والتعريف الثاني أعم من الأول ، لأن ما كان من شيء فهو مستند إليه في وجوده ، وليس كل مستند في وجوده إلى شيء يكون منه .

                قوله : " ولا شك أن الفقه مستمد من أدلته ، ومستند في تحقق وجوده إليها " .

                هذا بيان وتقرير لكون التعريفين المذكورين متطابقين للمعرف بهما ، وهو الأصل ، لأن الفقه يستمد من أدلته ، بمعنى أنها مادة له باعتبار جنس المعنى ، لا باعتبار خصوص تركيب الألفاظ ، فقولنا : الماء الباقي على إطلاقه طهور ، سواء نزل من السماء ، أو نبع من الأرض ، هو مستمد من قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ الفرقان : 48 ] ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به [ الأنفال : 11 ] ، لأن معناها واحد ، وإن اختلفت تراكيب الصيغ ، لكن الألفاظ غير مقصودة لذاتها ، بل لإظهار المعاني .

                فعلى هذا " من " في قوله : ما منه الشيء : للتبعيض ، أي : ما بعضه الشيء ، والفرع بعض أصله ، كالولد من الوالد ، والغصن من الشجرة ، وقد بينا : أن الفقه مقتطع من أدلته اقتطاع الولد من الوالد ، والغصن من الشجرة ، أو نحوه .

                ويجوز أن تكون " من " فيه : لابتداء الغاية ، على معنى أن أدلة الفقه من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ونحوها ، هي مبدأ ظهوره ، ومنها ابتداء بيانه ، وهذا أظهر المعنيين في " من " ، وكذلك بالنظر إلى التعريف الثاني ، [ ص: 125 ] الفقه مستند في وجوده إلى أدلته ، بمعنى أنها لو لم توجد هي لم يوجد هو ، إذ لو لم يوجد قوله عليه السلام : من بدل دينه فاقتلوه لم يحكم بقتل المرتد ، إلى غير ذلك من الأحكام التي لو لم توجد أدلتها لم يحكم بها .

                والاستناد ، هو اعتماد الشيء إلى غيره ، بحيث لو زال ذلك الغير لم يستقر ذلك الشيء ، وكذلك الفقه مع أدلته ، لو زالت لم يستقر الفقه ، وقد وقع ذلك كثيرا في الأحكام المنسوخة ، كانت ثابتة قبل النسخ لبقاء أدلتها محكمة ، فلما زالت الأدلة التي هي مستند الأحكام لم تستقر الأحكام ، بل زالت بزوالها ، ووزان ذلك من المحسوسات من استند إلى جدار ، فمال الجدار ووقع ، فإن المستند إليه يقع بالضرورة . هذا الكلام على ألفاظ المختصر .

                وقال في " المحصول " : الأصل هو المحتاج إليه .

                ورد ، بأن الشيء قد يحتاج إلى ما ليس أصلا له ، كالمأكول والمشروب والملبوس ، والزوجة والولد وغير ذلك ، فالمحتاج إليه أعم من الأصل ؛ إذ كل أصل محتاج إليه ، وليس كل محتاج إليه أصلا .

                وقال أبو إسحاق - وقد تقدم ذكره - : أصول الفقه ، هي الأدلة التي يبنى عليها الفقه .

                وقال القاضي في " العدة " : أصول الفقه ، عبارة عما تبنى عليه مسائل الفقه [ ص: 126 ] وتعلم أحكامها به ، لأن أصل الشيء ما تعلق به ، وعرف منه ، إما باستخراج أو تنبيه .

                قلت : ما ذكره في أصول الفقه صحيح ، أما قوله : أصل الشيء ما تعلق به ، فليس بجيد ، إذ قد يتعلق الشيء بما ليس أصلا له ، كتعلق الحبل بالوتد في المحسوسات ، وتعلق السبب بالمسبب ، والعلة بالمعلول في المعقولات .

                وقال القرافي : أصل الشيء : ما منه الشيء لغة ، ورجحانه ودليله اصطلاحا ، يعني أن أصل الشيء في اللغة مادته كما ذكرناه أولا ، نحو قولنا : أصل السنبلة البرة ، أي : هي مادتها .

                وأما في الاصطلاح ، فيطلق الأصل على رجحان الشيء ، نحو : الأصل براءة الذمة ، أي : هو راجح ، ولهذا احتيج في دعاوى الحقوق إلى البينات ، ليصير جانب المدعي راجحا بعد أن كان مرجوحا ، وكقولنا في قوله تعالى : أو لامستم النساء [ النساء : 43 ] : المراد حقيقة الملامسة باليد ، لأن الأصل عدم المجاز .

                والمتيمم إذا رأى الماء في الصلاة لا يخرج منها ، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان ، والعبد الغائب تجب فطرته ، لأن الأصل بقاؤه .

                والمراد في هذا كله ، أن الأصل هو الراجح ، أو أن الرجحان الأصل .

                ويطلق أيضا في الاصطلاح ، على الدليل ، نحو : أصول الفقه أدلته . وهذا الذي قاله القرافي توسط جيد ، وهو أن الأصل في اللغة هو المادة ، وفي الاصطلاح [ ص: 127 ] الرجحان والدليل .

                " تنبيه " زعم بعض المتعنتين ، أن تعريف الشيء بـ " ما " ، نحو قولنا : أصل الشيء : ما منه الشيء ، وأصول الفقه ، ما ينبني عليه الفقه ، ونحو ذلك ، قبيح أو غير صحيح ، قال : لأن المراد من التعريف الإيضاح والإفهام ، ولفظ " ما " شديد الإبهام ، فالتعريف به ينافي المقصود .

                وهذا كلام لا طائل تحته ، لأن ما وإن كانت شديدة الإبهام ، غير أن التعريف ليس بها وحدها ، بل بها وبما بعدها ، وبمجموعهما يحصل الكشف عن حقيقة المحدود .

                فلا فرق إذا بين قولنا : أصل الشيء ما منه الشيء ، وبين قولنا : أصل الشيء معلوم أو موجود أو جسم منه الشيء .

                ولا فرق بين قولنا : ما يستند تحقق الشيء إليه . وبين قولنا : معلوم أو موجود ، أو جسم يستند تحقق الشيء إليه .

                نعم ، المناقشة على ذلك من وجه آخر ، وهو أن شأن الحدود والتعريفات أن يوضع فيها الجنس الأقرب ، ثم يميز بما يفصل النوع المقصود عن غيره من أنواع ذلك الجنس ، ولفظ ما عام في الجنس القريب والبعيد ، فلا يعلم منه أيهما المراد .

                فلو قال قائل : الإنسان : ما كان ناطقا ، لم يعلم هل المراد ما كان من الحيوان ناطقا ، فيكون قد أتى بالجنس القريب ، كقوله : حيوان ناطق ، أو ما كان من الأجسام أو المعلومات أو الموجودات ناطقا ، فيكون قد أتى بالجنس البعيد ، نحو قوله : [ ص: 128 ] جسم ناطق أو معلوم أو موجود ناطق ، فيكون قد أخل بالمختار في الاصطلاح ، وأفسد الحد بتناوله الملك والجني ، إذ كل منهما معلوم وموجود ناطق .

                والجواب : أن الحذاق لا يطلقون لفظ ما في التعريف إلا مع قرينة تدل على الجنس القريب ، والقرائن في المخاطبات كالألفاظ ، بل أبلغ في الإفهام ، إذ قد تكون القرينة عقلية قاطعة واللفظ مجملا ، فتكون القرينة أدل منه .

                مثال ذلك قول القائل : العلم مثلا : معرفة الشيء على ما هو ، ثم يقول : والفقه ما عرف منه أحكام أفعال المكلفين .

                فإن تقديمه لتعريف العلم ، دلنا على أن مراده بما التي عرف بها الفقه نوع من أنواع العلم ، فكأنه قال : الفقه : علم يعرف به أحكام أفعال المكلفين .

                وكذلك من قال : الكلمة : لفظ وضع لمعنى مفرد ، وأنواعها : اسم وفعل وحرف ، ثم قال : الاسم : ما دل على معنى في نفسه ، تقديمه لتعريف الكلمة ، وأن الاسم من أنواعها ، دل على أن مراده بـ " ما دل على معنى " : كلمة دلت على معنى .

                فأما من أطلق لفظ ما في هذا الباب من غير قرينة دالة على المراد ، أو على وجه يفسد به التعريف ، فذاك ممن لا كلام معه بإقرار ولا إنكار .




                الخدمات العلمية