الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد

قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان يعني الناس ، وقيل : آدم .

ونعلم ما توسوس به نفسه أي : ما يختلج في سره وقلبه وضميره ، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها . [ ص: 10 ] ومن قال : إن المراد بالإنسان آدم ; فالذي وسوست به نفسه هو الأكل من الشجرة ، ثم هو عام لولده . والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي . قال الأعشى : تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل وقد مضى في " الأعراف " .

ونحن أقرب إليه من حبل الوريد هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه ، وهما وريدان عن يمين وشمال . روي معناه عن ابن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة . والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين . وقال الحسن : الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب . وهذا تمثيل للقرب ; أي : نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه ، وليس على وجه قرب المسافة . وقيل : أي : ونحن أملك به من حبل وريده مع استيلائه عليه . وقيل : أي : ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه ; لأنه عرق يخالط القلب ، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب ، روي معناه عن مقاتل قال : الوريد عرق يخالط القلب ، وهذا القرب قرب العلم والقدرة ، وأبعاض الإنسان يحجب البعض البعض ولا يحجب علم الله شيء .

قوله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد أي : نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان ، وهما الملكان الموكلان به ، أي : نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملك يخبر ولكنهما وكلا به إلزاما للحجة ، وتوكيدا للأمر عليه . وقال الحسن ومجاهد وقتادة : المتلقيان ملكان يتلقيان عملك ، أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك . قالالحسن : حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك . وقال مجاهد : وكل الله بالإنسان مع علمه بأحواله ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله ، ويكتبان أثره إلزاما للحجة : أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات ، والآخر عن شماله يكتب السيئات ، فذلك قوله تعالى : عن اليمين وعن الشمال قعيد . وقال سفيان : بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب العبد قال لا تعجل لعله يستغفر الله . وروي معناه من حديث أبي أمامة ; قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع [ ص: 11 ] ساعات لعله يسبح أو يستغفر . وروي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن مقعد ملكيك على ثنيتك ؛ لسانك قلمهما ، وريقك مدادهما ، وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما . وقال الضحاك : مجلسهما تحت الثغر . على الحنك . ورواه عوف عن الحسن قال : وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته . وإنما قال : قعيد ولم يقل قعيدان وهما اثنان ; لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ؛ قاله سيبويه ; ومنه قول الشاعر : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وقال الفرزدق : إني ضمنت لمن أتاني ما جنى وأبى فكان وكنت غير غدور ولم يقل راضيان ولا غدورين . ومذهب المبرد أن الذي في التلاوة أول أخر اتساعا ، وحذف الثاني لدلالة الأول عليه . ومذهب الأخفش والفراء : أن الذي في التلاوة يؤدي عن الاثنين والجمع ولا حذف في الكلام . و " قعيد " بمعنى قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد . وقيل : قعيد بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم بمعنى مؤاكل ومنادم . وقال الجوهري : فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ; كقوله تعالى : إنا رسول رب العالمين وقوله : والملائكة بعد ذلك ظهير . وقال الشاعر في الجمع ، أنشده الثعلبي : ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر والمراد بالقعيد هاهنا الملازم الثابت لا ضد القائم .

قوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد أي : ما يتكلم بشيء إلا كتب عليه ; مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم . وفي الرقيب ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه المتبع للأمور . الثاني : أنه الحافظ ؛ قاله السدي . الثالث : أنه الشاهد ؛ قاله الضحاك . وفي العتيد وجهان ؛ أحدهما : أنه الحاضر الذي لا يغيب . الثاني : أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة . قال الجوهري : العتيد الشيء الحاضر المهيأ ; وقد عتده تعتيدا وأعتده إعتادا أي : [ ص: 12 ] أعده ليوم ، ومنه قوله تعالى : وأعتدت لهن متكأ وفرس عتد وعتد بفتح التاء وكسرها المعد للجري . قلت : وكله يرجع إلى معنى الحضور ، ومنه قول الشاعر :

لئن كنت مني في العيان مغيبا فذكرك عندي في الفؤاد عتيد

قال أبو الجوزاء ومجاهد : يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه . وقال عكرمة : لا يكتب إلا ما يؤجر به أو يؤزر عليه . وقيل : يكتب عليه كل ما يتكلم به ، فإذا كان آخر النهار محي عنه ما كان مباحا ، نحو : انطلق ، اقعد ، كل ، مما لا يتعلق به أجر ولا وزر ، والله أعلم . وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلا قال الله تعالى لملائكته اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة . وقال علي رضي الله عنه : ( إن لله ملائكة معهم صحف بيض فأملوا في أولها وفي آخرها خيرا يغفر لكم ما بين ذلك ) . وأخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة ، قال حدثنا جدي محمد بن إسحاق ، قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي ، قال حدثنا سهيل بن عبد الله قال : سمعت الأعمش يحدث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الحافظين إذا نزلا على العبد أو الأمة معهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبد أو الأمة فإذا أرادا أن ينهضا قال أحدهما للآخر : فك الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له فإذا فيه ما كتب سواء فذلك قوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد غريب ، من حديث الأعمش عن زيد ، لم يروه عنه إلا سهيل . وروي من حديث أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا : ربنا قد مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى : إن سماواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني ، فيقولان ربنا نقيم في الأرض فيقول الله تعالى : إن أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني ، فيقولان يا رب فأين نكون فيقول الله تعالى : كونا على قبر عبدي فكبراني وهللاني وسبحاني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة .

[ ص: 13 ] قوله تعالى : وجاءت سكرة الموت بالحق أي : غمرته وشدته ; فالإنسان ما دام حيا تكتب عليه أقوال وأفعال ليحاسب عليها ، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده . وقيل : الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلى دار الحق ; فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت ، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما ; لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين . وقيل : يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى ; أي : جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت . وقيل : الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت ; ذكره المهدوي . وقد زعم من طعن على القرآن فقال : أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ : وجاءت سكرة الحق بالموت . فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان : إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل ، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها ، أو الغلط من بعض من نقل الحديث . قال أبو بكر الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا علي بن عبد الله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال : لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما دخلت عليه قالت : هذا كما قال الشاعر :

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فقال أبو بكر : هلا قلت كما قال الله : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد وذكر الحديث . والسكرة واحدة السكرات . وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة - أو علبة - فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء ، فيمسح بهما وجهه ويقول : لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول : في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده . خرجه البخاري . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول : السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة . وقال عيسى ابن مريم : " يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة " يعني سكرات الموت . وروي : ( إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض ) .

ذلك ما كنت منه تحيد أي : يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه . يقال : حاد عن الشيء يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال [ ص: 14 ] عنه وعدل . وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت ; لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق . وتقول في الإخبار عن نفسك : حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه قال طرفة : أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض

التالي السابق


الخدمات العلمية