الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم

                          ذكر جمهور المفسرين أن قوله - تعالى - : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون خطاب للمؤمنين ، وأنه كلام مستأنف سيق لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكافرين ولا يقبل منهم . وذهب الأستاذ الإمام إلى أن الخطاب لا يزال لأهل الكتاب . ذلك أن من سنة القرآن أن يقرن الكلام في الإيمان بذكر آثاره من الأعمال الصالحة . وأدلها عليه بذل المال في سبيل الله ، فلما حاج أهل الكتاب في دعاويهم في الإيمان والنبوة وكونهم شعب الله الخاص وكون النبوة محصورة فيهم ، وكونهم لا تمسهم النار إلا أياما معدودات خاطبهم في هذه الآية بآية الإيمان وميزانه الصحيح الذي يعرف به المرجوح والرجيح ، وهو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص وحسن النية كأنه يقول : إنكم أيها المدعون لتلك الدعاوي والمفتخرون بالكتاب الإلهي واتصال حبل النسب بالنبيين قد أحضرت أنفسكم الشح وآثرتم شهوة المال على مرضاة الله وإذا أنفق أحدكم شيئا ما فإنما ينفق من أردأ ما يملك وأبغضه إليه وأكرهه عنده ; لأن [ ص: 306 ] محبة كرائم المال في قلبه تعلو محبة الله - تعالى - ، والرغبة في ادخاره تفوق لديه الرغبة فيما عند ربه من الرضى والمثوبة ، ولن تنالوا البر فتعدوا من الأبرار الذين هم المؤمنون الصادقون ، حتى تنفقوا مما تحبون ، فحذف ذكر الإيمان استغناء بذكر أكبر آياته وأوضح دلالته ، وهي إنفاق المحبوبات وبذل المشتهيات . وقال الأستاذ الإمام : إن المتبادر من الإنفاق هنا هو المال ; لأن شأنه عند النفوس عظيم حتى إن الإنسان كثيرا ما يخاطر بنفسه ويستسهل بذل روحه لأجل الدفاع عن ماله أو المحافظة عليه . أقول : وتؤيده آية ( 2 : 177 ) الآتية على أن المال يعم النقدين وغيرهما مما يتموله الناس ، وشرط البر بذل بعض ما يحبه الإنسان من كل شيء حتى الطعام وهو أحد الوجهين في تفسير قوله - تعالى - : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ 76 : 8 ] أي على حبهم إياه .

                          والوجه الثاني : أن الضمير عائد إلى الله - تعالى - ، أي لأجل حبه - تعالى - والمال يجمع جميع المحبوبات ويوصل إليها .

                          واختلفوا في البر المراد هنا الذي لا يناله المرء - أي يصيبه ويدركه - إلا إذا أنفق مما يحب فقيل : هو بر الله - تعالى - وإحسانه مطلقا ، وقيل : الجنة ، وقيل : هو ما يكون به الإنسان بارا وهو ما تقدم تفصيله في قوله - تعالى - : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر [ 2 : 177 ] الآية ، وفيها وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى إلخ . وأنت ترى أنه في هذه الآية جعل إيتاء المال على حبه شعبة من شعب البر ، كما جعل في سورة الإنسان إطعام الطعام على حبه صفة من صفات الأبرار ، ولكنه في الآية التي نفسرها جعل الإنفاق مما يحب غاية لا ينال البر إلا بالانتهاء إليها . وقد فهم منه بعضهم أن من أنفق مما يحب كان برا وإن لم يأت بسائر شعب البر من الإيمان بجميع أركانه وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس ، وليس ما فهم بصواب ، إنما الصواب أن الإنسان لا يكون بارا بالقيام بهذه الخصال حتى ينتهي إلى هذه الخصلة - الإنفاق مما يحب - وما جعلها غاية إلا وهي أشق على النفوس وأبعد عن الحصول إلا من وفقه الله - تعالى - ووهبه الكمال .

                          وهذا الإنفاق غير الزكاة ، خلافا لما نقل في بعض الروايات ، فإن الزكاة قد عدت في آية البقرة من شعب البر وأركانه بعد ذكر إيتاء المال على حبه ، فدل ذلك على أنهما متغايران ولا يشترط في الزكاة أن تكون مما يحب المؤدي ، بل ورد أمر العاملين عليها باتقاء كرائم أموال الناس ، ومن فضل الله - تعالى - علينا أن اكتفى منا في نيل البر بأن ننفق مما نحب ، ولم يشترط علينا أن ننفق جميع ما نحب .

                          ثم قال - تعالى - : وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم لا يخفى عليه هل هو محبوب [ ص: 307 ] لديكم أو مزهود فيه ، وهل أنتم مخلصون في إنفاقه أم أنتم مراءون طالبون للشهرة والجاه ، فهو - عز وجل - يجازيكم على ما تنفقون بحسب ما يعلم من نيتكم ومن موقع ذلك من قلوبكم ، وقدر ما ترتقي بذلك أرواحكم ، فرب منفق مما يحب لا يسلم من الرياء ورب فقير لا يجد ما يحب فينفق منه ولكن قلبه يفيض بالبر حتى لو وجد ما أحب لأوشك أن ينفقه كله .

                          ويذكر المفسرون في تفسير الآية ما كان عليه السلف الصالح من جعل ما يحبون لله - تعالى - . ذكر ابن جرير الشواهد على ذلك من روايته ونقل غيره من كتب الحديث بعض الوقائع ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس قال : " كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، فلما نزلت : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قال أبو طلحة : يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء ، إنها صدقة لله - تعالى - أرجو برها وذخرها عند الله - تعالى - فضعها يا رسول الله بحيث أراك الله - تعالى - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بخ بخ ، ذلك مال رابح ، وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين . فقال : أفعل يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة بين أقاربه وبني عمه " وفي رواية لمسلم وأبي داود " فجعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب " وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن محمد بن المنكدر قال : " لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها ، فقال : وهي صدقة فقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمل عليها ابنه أسامة فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في وجه زيد فقال : إن الله قبلها منك " وفي رواية ابن جرير " فكأن زيدا وجد في نفسه فلما رأى ذلك منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أما إن الله قد قبلها " وهذا وما قبله من آيات سياسته - صلى الله عليه وسلم - للقلوب . رأى أن زيدا وأبا طلحة قد خرجا بعاطفة الإيمان عن أحب أموالهما إليهما على تعلق القلوب بكرائم الأموال ، فجعل ذلك في الأقربين منهما ليثبت قلوبهما فلا يكون للشيطان سبيل إلى الوسوسة لهما بالندم أو الامتعاض إذا رأيا ذلك في أيدي الغرباء ، وقد يمتعض المرء بعد فقد المحبوب وإن فارقه مختارا مرتاحا لعاطفة أو أريحية طارئة ، ثم لا يلبث أن يعاوده من الحنين إليه ما لا يعاوده إلى ما هو أغلى منه ثمنا إذا لم يكن من الكرائم المحبوبة ; ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر عمال الصدقة باتقاء كرائم أموال الناس . ويدل على ما قررته في ذلك أثر ابن عمر الآتي : أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال : " حضرتني هذه الآية لن تنالوا البر إلخ فذكرت ما أعطاني الله - تعالى - فلم أجد أحب إلي من مرجانة - جارية لي رومية - فقلت : هي حرة لوجه الله - تعالى - ، فلو أني أعود في شيء جعلته [ ص: 308 ] لله - تعالى - لنكحتها فأنكحتها نافعا " فانظر كيف راودته نفسه بعد عتقها أن يستبقيها لنفسه ولا يفارقها لولا أن كان مما تربت عليه نفسه العالية ألا يعود في شيء جعله لله ، وانظر كيف خص بها بعد ذلك مولاه نافعا الذي كان يحبه كولده .

                          ومما رواه ابن جرير في ذلك عن مجاهد قال : " كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى في قتال سعد بن أبي وقاص ، فدعا بها عمر فقال : إن الله يقول : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فأعتقها عمر " .

                          وآثار السلف في الإيثار وبذل المحبوبات في سبيل الله كثيرة " نزل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ضيف فلم يجد عند أهله شيئا فدخل عليه رجل من الأنصار - هو أبو طلحة زيد بن سهل - فذهب به إلى أهله ، فوضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج ، فقامت كأنها تصلحه فأطفأته ، وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ولا يأكل حتى أكل الضيف وبقي هو وعياله مجهودين ، فلما أصبح قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد عجب الله - عز وجل - من صنيعكم الليلة إلى ضيفكم ونزلت ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ 59 : 9 ] رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة .

                          واشتهى عبد الله بن عمر سمكة ، وكان قد نقه من مرض فالتمست بالمدينة فلم توجد حتى وجدت بعد مدة واشتريت بدرهم ونصف فشويت وجيء بها على رغيف فقام سائل بالباب ، فقال ابن عمر للغلام لفها برغيفها وادفعها إليه فأبى الغلام فرده وأمره بدفعها إليه ، ثم جاء به فوضعها بين يديه وقال : كل هنيئا يا أبا عبد الرحمن فقد أعطيته درهما وأخذتها ، فقال لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له أو غفر الله له رواه ابن حبان في الضعفاء وأبو الشيخ من حديث نافع عن ابن عمر والدارقطني في الأفراد .

                          وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " أنه أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأس شاة فقال : إن أخي فلانا كان أحوج مني إليه فبعث به إليه فلما وصل إليه قال: إن فلانا أحوج مني إليه فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث به كل واحد إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول " نقله أبو طالب في القوت والغزالي في الإحياء . ويشبه هذا ما حكي عن أبي الحسن الأنطاكي الصوفي أنه اجتمع عنده ثلاثون نفسا ونيف وكانوا في قرية بقرب الري ولهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام وأوهم كل واحد صاحبه أنه يأكل ، فلما رفع إذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منه شيئا .

                          [ ص: 309 ] وفي الإحياء : أن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - خرج إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم ، وفيهم غلام أسود يعمل فيه ، إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام ، فرمى إليه الغلام بقرص فأكله ، ثم رمى إليه بالثاني والثالث فأكلهماوعبد الله ينظر إليه ، فقال : يا غلام كم قوتك كل يوم ؟ قال : ما رأيت ، قال : فلم آثرت هذا الكلب ؟ فقال : ما هي بأرض كلاب ، إنه جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت رده ، قال : فما أنت صانع اليوم ؟ قال : أطوي يومي هذا . فقال عبد الله بن جعفر : ألام على السخاء ؟ إن هذا لأسخى مني . فاشترى الحائط ( أي بستان النخل الذي يعمل فيه الغلام الأسود ) والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه له .

                          وفي هذه الآثار وأمثالها ما يجب فيه أن يكون فيه أسوة حسنة لمن يؤمن بالله واليوم الآخر . وينتمي إلى أولئك السلف الصالحين ، والله ولي المؤمنين ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية