الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 309 ] ولا يلزم المكلف حكم الناسخ قبل علمه به ، اختاره القاضي ، وخرج أبو الخطاب لزومه على انعزال الوكيل قبل علمه بالعزل ، وهو تخريج دوري . لنا : لو لزمه لاستأنف أهل قباء الصلاة حين علموا بنسخ القبلة . قال : النسخ بورود الناسخ ، لا بالعلم به . ووجوب القضاء على المعذور غير ممتنع ، كالحائض والنائم . والقبلة تسقط بالعذر ، وهم كانوا معذورين . قلنا : العلم شرط اللزوم ; فلا يثبت دونه ، والحائض والنائم علما التكليف ، بخلاف هذا .

                التالي السابق


                قوله : " ولا يلزم المكلف حكم الناسخ قبل علمه به ، اختاره القاضي " ، أي : لا يثبت النسخ في حق من لم يبلغه الناسخ .

                مثاله : لو نسخت إباحة بعض المطعومات المباحة ، كالعنب ، بأن قيل : هو حرام عليكم ; فمن بلغه هذا النسخ ، ثبت التحريم في حقه ، ومن لم يبلغه ، لم يثبت في حقه عند القاضي أبي يعلى ، حتى لو أكل بعد النسخ ، وقبل العلم ، لم يكن عاصيا ، وكذا لو زيد في الصلوات صلاة ، أو في الفجر ركعة ، ولم يبلغه النسخ ، لم يكن مخاطبا بها حتى يبلغه .

                " وخرج أبو الخطاب لزومه " ، أي : لزوم حكم الناسخ للمكلف قبل بلوغه " على انعزال الوكيل قبل علمه بالعزل " ، يعني أن في لزوم حكم الناسخ من لم يبلغه قولين ، كالقولين فيما إذا عزل الموكل الوكيل ، ولم يبلغه العزل ، هل ينعزل أم لا ؟

                إن قلنا : ينعزل الوكيل بالعزل قبل علمه به ، لزم المكلف حكم الناسخ قبل علمه به ، وإلا فلا .

                ووجه هذا التخريج : أن المكلف في التزام الأحكام بالنسبة إلى أوامر الله [ ص: 310 ] تعالى ، كالوكيل في التصرفات بالنسبة إلى إذن الموكل ، والجامع بينهما أن كل واحد منهما ، أعني المكلف والوكيل ، لا يجوز له التصرف إلا بمقتضى الإذن ، وينعزل بالعزل ، فإذا قال الموكل لوكيله : عزلتك ، انعزل . ولو قال الله عز وجل للمكلف : أسقطت عنك التكليف ، لسقط عنه ولم يجز له بعد ذلك أن يتصرف في العبادات فيما كان يتصرف فيه قبل ، بناء على ما ذكر في عدم وجوب شكر المنعم عقلا .

                قوله : " وهو تخريج دوري " ، أي : تخريج أبي الخطاب لهذه المسألة ، على مسألة انعزال الوكيل ، يلزم منه الدور ; لأن هذه المسألة أصولية ، ومسألة عزل الوكيل فرعية ; فهي فرع على مسألة النسخ ; لأن العادة تخريج الفروع على الأصول ; فلو خرجنا هذا الأصل المذكور في النسخ على الفرع المذكور في الوكالة ، لزم الدور ، لتوقف الأصل على الفرع المتوقف عليه ; فيصير من باب توقف الشيء على نفسه بواسطة .

                قلت : وهذا الحكم ، أعني عدم لزوم حكم الناسخ من لم يبلغه ، لا يختص الناسخ ، بل سائر النصوص ، ناسخة كانت ، أو مبتدئة ; فيها الخلاف المذكور . والأشبه ما صححناه من عدم اللزوم .

                قال الآمدي : والخلاف إنما هو فيما إذا ورد الناسخ إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قبل بلوغه الأمة ; فأثبت حكمه في حق المكلفين بعض الشافعية ، ونفاه بعضهم ، وبه قال [ ص: 311 ] أحمد والحنفية ، قال : وهو المختار .

                أما إذا كان مع جبريل قبل بلوغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; فلا يثبت حكمه في حق المكلفين اتفاقا .

                قلت : لعل وجه الفرق : هو أنه إذا بلغ النص النبي ، صلى الله عليه وسلم ; فقد بلغ محل التكليف البشري ; فثبت حكمه في حق المكلفين ، تنزيلا للنبي صلى الله عليه وسلم ، منزلة جميعهم ، بخلاف ما إذا لم يبلغه .

                قلت : ولا يظهر لهذا التفصيل أثر ، ولا مناسبة ، بل الأولى أن النص مطلقا لا يثبت حكمه إلا في حق من بلغه ، نفيا لتكليف ما لا يطاق ، أو للتكليف بدون العلم بالمكلف به . ولعل أحمد - رحمه الله تعالى على هذا - خرج قولا له ثالثا في أكل لحم الجزور ، إن علم بالنص في نقض الوضوء به انتقض به وضوءه ، وإلا فلا .

                وكذلك فيمن خاف فوت الركعة ; فركع فذا دون الصف ، ثم دخل في الصف ، إن علم بالنهي عن ذلك ، لم تصح صلاته ، وإلا صحت ، هو قول عن أحمد ، وهو اختيار الخرقي .

                [ ص: 312 ] قوله : " لنا لو لزمه ، لاستأنف أهل قباء الصلاة حين علموا بنسخ القبلة " .

                هذا دليل القاضي ، ومن وافقه ، على أن حكم الناسخ لا يلزم قبل بلوغه .

                وتقريره : أن أهل قباء بلغهم نسخ القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، وهم في صلاة العصر أو الفجر فاستداروا إلى الكعبة ، وبنوا على ما مضى من صلاتهم ، ولم يستأنفوها . ولو ثبت حكم الناسخ في حقهم قبل بلوغه إياهم ، لزمهم استئناف الصلاة ; لأنهم على هذا التقدير ، قد ثبت أن القبلة شرط لصحة الصلاة في حقهم قبل الدخول فيها ; فحيث افتتحوها إلى غير القبلة ; فقد أخلوا بشرطها ; فيلزمهم أن يستأنفوها ; لأن افتتاحهم لها وقع فاسدا ، للإخلال بشرطه ، لكنهم لم يستأنفوها ، ولم ينقل أنهم أمروا باستئنافها ، مع أن مثل تلك القضية ، لا يخفى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عادة ; فوجب القول بأن حكم الناسخ لا يلزم من لم يبلغه .

                قوله : " قال " ، يعني أبا الخطاب ومن وافقه ، احتج لقوله بأن " النسخ بورود [ ص: 313 ] الناسخ لا بالعلم به " فيثبت حكمه في حق المكلف وإن لم يبلغه ، وإنما قلنا : النسخ يحصل بورود الناسخ ; لأن النسخ رفع الحكم ، وبورود الناسخ يحصل الرفع ، سواء بلغ المكلف الناسخ أو لا ، وذلك يقتضي أن يثبت في حقه مطلقا ، بلغه أو لم يبلغه .

                نعم إذا لم يبلغه الناسخ ; فأخل بامتثال حكمه ، كان معذورا بعدم العلم ; فيلزمه الاستدراك بالقضاء ، ووجوب القضاء على المعذور غير ممتنع ، كالحائض والنائم ، يقضيان ما فاتهما من العبادات وقت الحيض والنوم ، مع أنهما معذوران .

                كذلك من لم يبلغه الناسخ ، يقضي ما فاته من حكمه في حال عدم بلوغه إياه ، ويظهر أثر عدم العلم في سقوط الإثم ; فإنه لو علم بالناسخ ، وترك مقتضاه ، أثم ، ولزمه القضاء ، فإذا لم يعلم ، لزمه القضاء ، ولا إثم عليه للعذر .

                قوله : " والقبلة تسقط بالعذر " . هذا جواب من أبي الخطاب عن قصة أهل قباء .

                وتقريره : أن قصة أهل قباء لا حجة فيها على عدم لزوم حكم الناسخ من لم يبلغه ; لأنهم كانوا معذورين بعدم العلم ، وإنما أخلوا باستقبال القبلة في ابتداء صلاتهم ، واستقبال القبلة يسقط بالعذر في جميع الصلاة ، بدليل ما إذا اشتبهت عليه جهتها ; فاجتهد ; فأخطأها ، فإن صلاته تصح ، وإن وقعت جميعها إلى غير القبلة ; فلأن تصح الصلاة ، مع ترك الاستقبال في جزء منها للعذر ، أولى .

                قوله : " وقلنا : العلم شرط اللزوم ; فلا يثبت دونه " ، إلى آخره . هذا جواب [ ص: 314 ] عن دليل أبي الخطاب .

                وتقريره : أنا إن سلمنا أن النسخ يحصل بورود الناسخ كما قررته ، لكن العلم به ، أي : علم المكلف به ، وبلوغه إياه ، شرط للزوم حكمه له ; فلا يثبت في حقه بدونه ، أي : بدون العلم به ، لاستحالة ثبوت المشروط بدون شرطه ، وإنما قلنا : إن العلم بالحكم شرط في لزومه للمكلف ، لما سبق في شروط التكليف ، وذكر آنفا أيضا ، من لزوم تكليف ما لا يطاق ، أو تكليف ما لا يعلمه المكلف .

                قوله : " ووجوب القضاء على المعذور غير ممتنع ، كالحائض والنائم " .

                قلنا : الفرق بينهما : أن الحائض والنائم علما التكليف ، أي : علما أنهما مكلفان بالصوم مثلا ; فوجد شرط لزوم الحكم لهما ، بخلاف هذا ، أي : الذي لم يبلغه الناسخ ; فإنه لا يعلم أنه مكلف بالفعل ، ولم يوجد شرط لزوم الحكم له ; فلا يلزمه ; فظهر الفرق . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية