الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( " خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ( 37 ) " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 38 ) )

يقول تعالى ذكره ( خلق الإنسان ) يعني آدم ( من عجل ) .

واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : من عجل في بنيته وخلقته ، كان من العجلة ، وعلى العجلة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن يمان عن أشعث ، عن جعفر عن سعيد في قوله ( خلق الإنسان من عجل ) قال : لما نفخ فيه الروح في ركبتيه ذهب لينهض ، فقال الله : ( خلق الإنسان من عجل ) .

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو قال : ثنا أسباط عن السدي قال : لما نفخ فيه يعني في آدم الروح ، فدخل في رأسه عطس ، فقالت الملائكة : قل الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربك ، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة; فذلك حين يقول ( خلق الإنسان من عجل ) يقول : خلق الإنسان عجولا .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة ( خلق الإنسان من عجل ) قال : خلق عجولا . [ ص: 442 ] وقال آخرون : معناه : خلق الإنسان من عجل : أي من تعجيل في خلق الله إياه ومن سرعة فيه وعلى عجل ، وقالوا : خلقه الله في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس على عجل في خلقه إياه قبل مغيبها .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله ( خلق الإنسان من عجل ) قال : قول آدم حين خلق بعد كل شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق : فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ، ولم تبلغ أسفله ، قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس .

حدثني الحارث قال ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج قال : قال مجاهد ( خلق الإنسان من عجل ) قال آدم حين خلق بعد كل شيء ثم ذكر نحوه ، غير أنه قال في حديثه : استعجل بخلقي فقد غربت الشمس .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( خلق الإنسان من عجل ) قال : على عجل آدم آخر ذلك اليوم من ذينك اليومين ، يريد يوم الجمعة ، وخلقه على عجل ، وجعله عجولا .

وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة ممن قال نحو هذه المقالة : إنما قال : ( خلق الإنسان من عجل ) وهو يعني أنه خلقه من تعجيل من الأمر ، لأنه قال ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) قال : فهذا العجل . وقوله ( فلا تستعجلون ) إني سأريكم آياتي وعلى قول صاحب هذه المقالة يجب أن يكون كل خلق الله خلق على عجل ، لأن كل ذلك خلق بأن قيل له كن فكان . فإذا كان ذلك كذلك ، فما وجه خصوص الإنسان إذا بذكر أنه خلق من عجل دون الأشياء كلها ، وكلها مخلوق من عجل ، وفي خصوص الله تعالى ذكره الإنسان بذلك الدليل الواضح على أن القول في ذلك غير الذي قاله صاحب هذه المقالة .

[ ص: 443 ] وقال آخرون منهم : هذا من المقلوب ، وإنما خلق العجل من الإنسان ، وخلقت العجلة من الإنسان . وقالوا : ذلك مثل قوله ( ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ) وإنما هو لتنوء العصبة بها متثاقلة ، وقالوا : هذا وما أشبهه في كلام العرب كثير مشهور ، قالوا : وإنما كلم القوم بما يعقلون ، قالوا : وذلك مثل قولهم : عرضت الناقة ، وكقولهم : إذا طلعت الشعرى واستوت العود على الحرباء : أي استوت الحرباء على العود ، كقول الشاعر :


وتركب خيلا لا هوادة بينها وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر



وكقول ابن مقبل :


حسرت كفي عن السربال آخذه     فردا يجر على أيدي المفدينا



يريد : حسرت السربال عن كفي ، ونحو ذلك من المقلوب ، وفي إجماع أهل التأويل على خلاف هذا القول الكفاية المغنية عن الاستشهاد على فساده بغيره .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا الذي ذكرناه عمن قال معناه : خلق الإنسان من عجل في خلقه : أي على عجل وسرعة في ذلك ، وإنما قيل ذلك كذلك ، لأنه بودر بخلقه مغيب الشمس في آخر ساعة من نهار يوم الجمعة ، وفي ذلك الوقت نفخ فيه الروح .

وإنما قلنا أولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب ، لدلالة قوله تعالى ( سأريكم آياتي فلا تستعجلون ) على ذلك .

وأن أبا كريب حدثنا قال : ثنا ابن إدريس قال : أخبرنا محمد بن [ ص: 444 ] عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجمعة لساعة يقللها ، قال لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أتاه الله إياه فقال عبد الله بن سلام : قد علمت أي ساعة هي ، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة ، قال الله ( خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ) .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا المحاربي وعبدة بن سليمان وأسير بن عمرو عن محمد بن عمرو قال : ثنا أبو سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وذكر كلام عبد الله بن سلام بنحوه .

فتأويل الكلام إذا كان الصواب في تأويل ذلك ما قلنا بما به استشهدنا ( خلق الإنسان من عجل ) ولذلك يستعجل ربه بالعذاب ( سأريكم آياتي فلا تستعجلون ) أيها المستعجلون ربهم بالآيات القائلون لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم : بل هو شاعر ، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون - آياتي كما أريتها من قبلكم من الأمم التي أهلكناها بتكذيبها الرسل ، إذا أتتها الآيات فلا تستعجلون ، يقول : فلا تستعجلوا ربكم ، فإنا سنأتيكم بها ونريكموها .

واختلفت القراء في قراءة قوله ( خلق الإنسان من عجل ) فقرأته عامة قراء الأمصار ( خلق الإنسان من عجل ) بضم الخاء على مذهب ما لم يسم فاعله . وقرأه حميد الأعرج ( خلق ) بفتحها ، بمعنى : خلق الله الإنسان ، والقراءة التي عليها قراء الأمصار ، هي القراءة التي لا أستجيز خلافها .

وقوله ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) يقول تعالى ذكره : ويقول هؤلاء المستعجلون ربهم بالآيات والعذاب لمحمد صلى الله عليه وسلم : متى هذا الوعد : يقول : متى يجيئنا هذا الذي تعدنا من العذاب إن كنتم صادقين فيما تعدوننا به من ذلك . وقيل ( إن كنتم صادقين ) كأنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به ، و " متى " في موضع نصب ؛ لأن معناه : أي وقت هذا الوعد وأي يوم هو فهو نصب على الظرف لأنه وقت .

التالي السابق


الخدمات العلمية