الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        [ ص: 111 ] باب ما جاء في المغتصبة

                                                                                                                        1541 - قال مالك : الأمر عندنا في المرأة توجد حاملا ولا زوج لها ، فتقول : قد استكرهت ، أو تقول : تزوجت . إن ذلك لا يقبل منها ، وإنها يقام عليها الحد ، إلا أن يكون لها على ما ادعت من النكاح بينة ، أو على أنها استكرهت ، أو جاءت تدمى ، إن كانت بكرا ، أو استغاثت حتى أتيت وهي على ذلك الحال ، أو ما أشبه هذا ، من الأمر الذي تبلغ فيه فضيحة نفسها ، قال : فإن لم تأت بشيء من هذا ، أقيم عليها الحد ، ولم يقبل منها ما ادعت من ذلك .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        35625 - قال أبو عمر : قد مضى القول في هذا الباب ، في باب الرجم ، عند قول عمر بن الخطاب : الرجم في كتاب الله حق ، على من زنى من الرجال والنساء ، إذ أحصن ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف . فجعل وجود الحبل كالبينة أو الاعتراف ، فلا وجه لإعادة ما قد مضى ، إلا أن نذكر [ ص: 112 ] طرفا هنا ، ونقول : إنه قد روي عن عمر خلاف ما رواه مالك عنه ، وإن كان إسناد حديث مالك أعلى ، ولكنه محتمل للتأويل .

                                                                                                                        35626 - وروى عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قد بلغ عمر ، أن امرأة متعبدة حملت ، فقال عمر : أتراها قامت من الليل تصلي ، فخشعت ، فسجدت ، فأتاها غاو من الغواة ، فتجشمها ، فحدثته بذلك سواء فخلى سبيلها .

                                                                                                                        35627 - وعن ابن عيينة ، عن عاصم بن كليب الجرمي ، عن أبيه ، أن أبا موسى كتب إلى عمر في امرأة أتاها رجل وهي نائمة ، فقالت : إن رجلا أتاني ، وأنا نائمة ، فوالله ما علمت حتى قذف في مثل شهاب النار .

                                                                                                                        فكتب عمر تهامية تنومت ، قد كان يكون مثل هذا ، وأمر أن يدرأ عنها الحد .

                                                                                                                        35628 - وروي عن عمر أيضا ، أنه أتي بامرأة حبلى بالموسم وهي تبكي ، فقالوا : زنت . زنت . فقال عمر : ما يبكيك ، فإن المرأة ربما استكرهت على نفسها . يلقنها ذلك ، فأخبرت أن رجلا ركبها نائمة ، فقال : لو قتلت هذه ، لخشيت أن يدخل ما بين هذين الأخشبين النار ، وخلى سبيلها .

                                                                                                                        35629 - وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال لشراحة ، حين أقرت بالزنا : لعلك غصبت على نفسك . فقالت : بل أتيت طائعة ، غير مكرهة .

                                                                                                                        35630 - واختلف الفقهاء في الرجل والمرأة ، يوجدان في بيت ، فيقران [ ص: 113 ] بالوطء ، ويدعيان الزوجية ؟ .

                                                                                                                        35631 - فقال مالك : إن لم يقيما البينة ، بما ادعيا من الزوجية ، بعد إقرارهما بالوطء ، أو بعد أن شهد عليهما به ، أقيم عليهما الحد .

                                                                                                                        35632 - قال ابن القاسم : إلا أن يكونا طارئين .

                                                                                                                        35633 - وقال عثمان البتي : إن كان يرى قبل ذلك يدخل إليها ، ويذكرها ، أو كانا طارئين ، لا يعرفان قبل ذلك ، فلا حد عليهما ، وإن كان لم يأتيا شيئا من ذلك ، فهما زانيان ما اجتمعا ، وعليهما الحد .

                                                                                                                        35634 - وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا وجد رجل وامرأة ، وأقرا بالوطء ، وادعيا أنهما زوجان ، لم يحدا ، ويخلى بينه وبينها .

                                                                                                                        35635 - وهو قول الشافعي .

                                                                                                                        35636 - قال أبو عمر : لا خلاف عليه علمته بين علماء السلف والخلف أن المكرهة على الزنا ، لا حد عليها ، إذا صح إكراهها ، واغتصابها نفسها .

                                                                                                                        35637 - وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تجاوز الله عن أمتي ، الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .

                                                                                                                        35638 - والأصل المجتمع عليه ، أن الدماء الممنوع منها بالكتاب والسنة لا ينبغي أن يراق شيء منها ، ولا يستباح إلا بيقين .

                                                                                                                        35639 - واليقين : الشهادة القاطعة ، أو الإقرار الذي يقيم عليه صاحبه ، فإن [ ص: 114 ] لم يكن ذلك ، فلأن يخطئ الإمام في العفو ، خير له من أن يخطئ في العقوبة ، فإذا صحت التهمة ، فلا حرج عليه في تعزير المتهم ، وتأديبه بالسجن ، وغيره ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                        35640 - وقد مضى القول في صداق المغتصبة ، لا تنكح حتى تستبرئ نفسها بثلاث حيض ، فإن ارتابت من حيضتها ، فلا تنكح حتى تستبرئ نفسها من تلك الريبة .

                                                                                                                        35641 - قال أبو عمر : قد تقدم ، في كتاب النكاح هذا المعنى ، وما فيه للعلماء ونعيده مختصرا هنا ، لإعادة مالك له في هذا الباب .

                                                                                                                        35642 - قال مالك : إذا زنى الرجل بالمرأة ، ثم أراد نكاحها ، فذلك جائز له ، بعد أن يستبرئها عن مائه الفاسد .

                                                                                                                        35643 - قال : وإن عقد النكاح قبل أن يستبرئها ، فهو كالناكح في العدة ، ولا يحل له أبدا ، إن كان وطؤه في ذلك .

                                                                                                                        35644 - قال مالك : وإذا تزوج امرأة حرة ، فدخل بها ، فجاءت بولد بعد شهر ، أنه لا ينكحها أبدا لأنه وطأها في عدة .

                                                                                                                        35645 - وقال الشافعي : يجوز نكاح الزانية ، وإن كانت حبلى من زنى ، ولا يطؤها حتى يستبرئها ، وأحب إلي أن لا يعقد عليها حتى تضع .

                                                                                                                        35645 - وقال زفر : إذا زنت المرأة ، فعليها العدة ، وإن تزوجت قبل انقضاء العدة ، لم يجز النكاح .

                                                                                                                        35647 - وقال أبو حنيفة في رجل رأى امرأة تزني ، ثم تزوجها ، فله أن [ ص: 115 ] يطأها قبل أن يستبرئها ، كما لو رأى امرأته تزني ، لم يحرم عليه وطؤها عنده .

                                                                                                                        35648 - وقال محمد بن الحسن : لا أحب له أن يطأها حتى يستبرئها ، وإن تزوج امرأة ، وبها حمل من زنا ، جاز النكاح ، ولا يطؤها حتى تضع ، ولم يفرق بين الزاني وغيره .

                                                                                                                        35649 - وقال عثمان البتي : لا بأس بتزويج الزانية الزاني وغيره ، وأحب إلي أن لا يقربها وفيها ماء خبيث .

                                                                                                                        35650 - وقال أبو يوسف : النكاح فاسد ، إذا كان الحمل من زنا .

                                                                                                                        35651 - وهو قول الثوري وزاد الثوري : وكان الحمل منه .

                                                                                                                        35652 - وقد روي عن أبي يوسف كقول أبي حنيفة .

                                                                                                                        35653 - وقال الأوزاعي : لا يتزوج الزاني الزانية إلا بعد حيضة ، وأحب إلي أن تحيض ثلاثا .

                                                                                                                        35654 - قال أبو عمر : أما حجة مالك ؛ فإنه قاس استبراء الرحم من الزنا بثلاث حيض في الحرة ، على حكم النكاح الفاسد المفسوخ ؛ لأن حكم النكاح الفاسد عند الجميع ، كالنكاح الصحيح في العدة ، فكذلك الزنا ؛ لأنه لا يستبرئ رحم غيره في حرة بأقل من ثلاث حيض ، قياسا على العدة .

                                                                                                                        35655 - وحجة الشافعي ، وأبي حنيفة ، أن العدة في الأصول ، لا تجب إلا بأسباب تقدمتها ؛ بنكاح ، ثم طلاق ، أو موت ، فلم يكن قبل الزنا بسبب [ ص: 116 ] تجب العدة بزواله ، وكذلك لم يجب عندهم فيه عدة ، والقياس عندهم في الحمل مثله في استبراء الرحم .

                                                                                                                        35656 - وقد احتج الشافعي بالحديث عن عمر ، أنه حد غلاما وجارية فجرا ، ثم حرص على أن يجمع بينهما ، فأبى الغلام . قال : فلم يكن عنده أن عليها عدة من زنى ، ولا مخالف له من الصحابة .

                                                                                                                        35657 - قال : ولا وجه لمن جعل ماء الزاني كماء المطلق ، فقاسه عليه ، وأباح للزاني نكاحا دون عدة ؛ لأن العدة فيها حق للزوج ، وعبادة عليه ، لقوله عز وجل : ( وأحصوا العدة ) [ الطلاق : 1 ] . ولقوله : ( فما لكم عليهن من عدة ) [ الأحزاب : 49 ] .

                                                                                                                        35658 - والعدة من الزنا ، لو وجبت ، لم يكن للزاني فيها حق ، وهو من سائر الناس ؛ لأنه لا فراش له ، ولا ولد يلحق به ، فلما لم يمنع الزاني من نكاحها ، لم يمنع غيره .




                                                                                                                        الخدمات العلمية