الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1646 [ ص: 309 ] حديث أول لابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب متصل

مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال : لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما بين لابتيها حرام .

التالي السابق


( لم يختلف رواة الموطأ في إسناده ولا متنه ) .

وفي هذا الحديث من الفقه تحريم المدينة ، وإذا كانت حراما لم يجز فيها الاصطياد ، ولا قطع الشجر كهيئة مكة إلا أنه لا جزاء فيه عند العلماء ، كذلك قال مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، وقال أبو حنيفة : صيد المدينة غير محرم ، وكذلك قطع شجرها ، وهذا الحديث حجة عليه مع سائر ما في [ ص: 310 ] ( تحريم ) المدينة من الآثار ، واحتج لأبي حنيفة بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من وجدتموه يصيد في حدود المدينة ، أو يقطع من شجرها فخذوا سلبه ، وأخذ سعد سلب من فعل ذلك ، قال : وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة فدل ذلك على أنه منسوخ ، قال : وقد يحتمل أن يكون معنى النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها ، لأن الهجرة كانت إليها فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ، ويدعو إلى ألفتها كما روي عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هدم آطام المدينة ، فإنها من زينة المدينة .

قال أبو عمر :

ليس في هذا كله حجة ، لأن حديث سعد ليس بالقوي ، ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط ما صح [ ص: 311 ] من تحريم المدينة ، وما تأوله في زينة المدينة ، فليس بشيء ، لأن الصحابة تلقوا تحريم ( المدينة ) بغير هذا التأويل ( وسعد قد عمل بما روى ، فأي نسخ هاهنا ؟ ) وفي قول أبي هريرة ( ما ذعرتها ) دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة كما لا يجوز ترويعه في الحرم ، والله أعلم .

وكذلك نزع زيد بن ثابت من يد الرجل النهس ، وهو طائر كان صاده بالمدينة دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريمه صيد المدينة ، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ، ولا تملك ما يصطاد ولذلك نزع زيد النهس وسرحه من يد صائده . يقال : إن ذلك الرجل شرحبيل بن سعيد ، وقال ابن مهدي ( عن مالك ) حرم المدينة بريد في بريد يعني ( من الشجر ) قال : واللابتان هما الحرتان ، وقال ابن حبيب : اللابة : الحرة وهي الأرض التي ألبست الحجارة السود الجرد وجمع اللابة لابات ، فإذا كثرت جدا فهي لوب . [ ص: 312 ] قال : وتحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتي ( المدينة ) إنما يعني في الصيد ، فأما في قطع الشجر ، فبريد في بريد في دور المدينة كلها محرم كذلك ، أخبرني مطرف عن مالك ، وعمر بن عبد العزيز فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما بين لابتيها يعني حرتيها الشرقية والغربية وهي حرار أربع لكن القبلية ، والجوفية متصلتان بها ، وقد ردها حسان بن ثابت إلى حرة واحدة لاتصالها فقال :


لنا حرة مأطورة بجبالها بنى العز فيها بيته فتأثلا



قال : وقوله : مأطورة بجبالها . يعني : معطوفة بجبالها لاستدارة الجبال بها ، وإنما جبالها تلك الحجارة السود التي تسمى الحرار .

قال أبو عمر :

وكذلك فسر ابن وهب ما بين لابتيها ( قال ) : ما بين حرتيها ، قال : وهو قول مالك ، قال ابن وهب : وهذا الذي حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها إنما هو في قتل الصيد . قيل لابن وهب : فما حرمه فيها في قطع الشجر ؟ [ ص: 313 ] قال : حد ذلك بريد في بريد بلغني ذلك عن عمر بن عبد العزيز ، وقال ابن نافع : اللابتان هما الحرتان إحداهما التي ينزل بها الحاج إذا رجعوا من مكة وهي بغربي المدينة ، والأخرى مما يليها من شرقي المدينة ، قال : فما بين هاتين الحرتين حرام أن يصاد فيها طير ، أو صيد ، قال ابن نافع : وحرة أخرى مما يلي قبلة المدينة وحرة رابعة من جهة الجوف ، فما بين هذه الحرار كلها في الدور محرم أن يصاد فيها ، ومن فعل ذلك أثم ، ولم يكن عليه جزاء ما صاده كما يكون عليه في حرم مكة إذا صاد فيه . وجملة مذهب مالك ، والشافعي في صيد المدينة وقطع شجرها أن ذلك مكروه لا جزاء فيه ( وقال مالك : لا يقتل الجراد في حرم المدينة ) وكان يكره أكل ما قتل الحلال من الصيد في حرم المدينة ) وقال أبو حنيفة وأصحابه : صيد المدينة غير محرم ، وكذلك ( قطع ) شجرها ، واحتج الطحاوي لهم بحديث أنس : يا أبا عمير ما فعل النغير ، قال : فلم ينكر صيده وإمساكه .

[ ص: 314 ] قال أبو عمر :

( هذا ) قد يجوز أن يكون صيدا في غير حرم المدينة ، فلا حجة فيه ، واحتج أيضا بحديث يونس بن أبي إسحاق ، عن مجاهد ، عن عائشة كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحش ، فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر ، فإذا أحس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربض ، فلم يترمرم كراهية أن يؤذيه ، والقول عندي في هذا الحديث كالقول في حديث النغير ، والله أعلم .

قال إسماعيل بن إسحاق بعد أن ذكر الآثار في تحريم ما بين لابتي المدينة : إني لأعجب ممن رد هذه الأحاديث بحديث أنس : يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ .

قال أبو عمر :

قد زدنا هذا الباب بيانا عند ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مالك ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن أنس ، اللهم إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم ما بين لابتيها ، وليس في سقوط الجزاء عمن اصطاد بالمدينة دليل على سقوط تحريم صيدها . ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 315 ] إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة .

قال إسماعيل ، وغيره : لم يبلغنا أنه كان في شريعة إبراهيم جزاء صيد ، وظاهر الآية يدل على أنه أمر شرعه الله لهذه الأمة بقوله ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم إلى قوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، قال إسماعيل : حدثنا محمد بن أبي بكر ، قال : حدثنا الفضيل بن سليمان ، قال : حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابتي المدينة حرام كما حرم إبراهيم مكة ، اللهم اجعل البركة فيها بركتين وبارك لهم في صاعهم ومدهم .




الخدمات العلمية