الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أفاد هذا الخبر كله القرآن الذي لا حق أحق منه ، ودل على أن فهم أمثاله يحتاج إلى مزيد علم ، وأن مفتاح العلم به سبحانه رسوخ الإيمان ، خاطب رأس أهل الإيمان لأنه أعظم الفاهمين له ليقتدي به الأتباع فقال : [ ص: 447 ] اتل ما أي : تابع قراءته; ودل على شرفه لاختصاصه به بقوله : أوحي إليك إذ الوحي الإلقاء سرا من الكتاب [أي : ] الجامع لكل خير ، فإنه المفيد للإيمان ، مع أنه أحق الحق الذي خلقت السماوات والأرض لأجله ، والإكثار في تلاوته يزيد بصيرة في أمره ، ويفتح كنوز الدقائق من علمه ، وهو أكرم من أن ينيل قارئه فائدة وأجل من أن يعطي قياد فوائده ويرفع الحجاب عن جواهره وفرائده في أول مرة ، بل كلما ردده القارئ بالتدبر حباه بكنز من أسراره ، ومهما زاد زاده [من] لوامع أنواره ، إلى أن يقطع بأن عجائبه لا تعد ، وغرائبه لا تحد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أرشد إلى مفتاح العلم ، دل قانون العمل الذي لا يصح إلا بالقرآن ، وهو ما يجمع الهم ، فيحضر القلب ، فينشرح الصدر ، فينبعث الفكر في رياض علومه ، فقال : وأقم الصلاة أي : التي هي أحق العبادات ، ثم علل ذلك بقوله دالا بالتأكيد على فخامة أمرها ، وأنه مما يخفى على غالب الناس : إن الصلاة تنهى أي : توجد النهي وتجدده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها عن الفحشاء أي : الخصال ألتي بلغ قبحها والمنكر أي : الذي فيه نوع قبح وإن دق ، وأقل ما فيها من النهي النهي عن تركها الذي هو كفر ، ومن انتهى [ ص: 448 ] عن ذلك انشرح صدره ، واتسع فكره ، فعلم من أسرار القرآن ما لا يعلمه غيره واتقوا الله ويعلمكم الله

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله ، أتبع ذلك الحث على روح الصلاة والمقصد الأعظم منها ، وهو المراقبة لمن يصلي [له] حتى كأنه يراه ليكون بذلك في أعظم الذكر بقوله : ولذكر الله أي : ولأن ذكر المستحق لكل صفة كمال أكبر أي : من كل شيء ، فمن استحضر ذلك بقلبه هان عنده كل شيء سواه : "إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه" ، أو يكون المراد أن من واظب على الصلاة ذكر الله ، ومن ذكره أوشك أن يرق قلبه ، ومن رق قلبه استنار لبه ، فأوشك أن ينهاه هذا الذكر المثمر لهذه الثمرة عن المعصية ، فكان ذكر الذاكر له سبحانه أكبر نهيا له عن المنكر من نهي الصلاة له ، وكان ذكره له سبحانه كبيرا ، كما قال تعالى : فاذكروني أذكركم وإذا كان هذا شأن ذكر العبد لمولاه ، فما ظنك بذكر مولاه له كلما أقبل عليه بصلاة فإنه جدير بأن يرفعه إلى حد لا يوصف ، ويلبسه من أنواره ملابس لا تحصر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 449 ] ولما كان ذلك يحتاج إلى علاج لمعوج الطباع ومنحرف المزاج ، وتمرن على شاق الكلف ، ورياضة لجماح النفوس ، وكان صلى الله عليه وسلم قد نزه عن ذلك كله بما جبل عليه من أصل الفطرة ، ثم [بما] غسل به قلبه من ماء الحكمة ، [وغير ذلك] من جليل النعمة ، عدل إلى خطاب الأتباع يحثهم على المجاهدة فقال : والله أي : المحيط علما وقدرة يعلم أي : في كل وقت ما تصنعون من الخير والشر ، معبرا بلفظ الصنعة الدال على ملازمة العمل تنبيها على أن إقامة ما ذكر تحتاج إلى تمرن عليه وتدرب ، حتى يصير طبعا صحيحا ، ومقصودا صريحا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية