الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الكلالة قال الله عز وجل : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس قال أبو بكر : الميت نفسه يسمى كلالة وبعض من يرثه يسمى كلالة وقوله تعالى : وإن كان رجل يورث كلالة يدل على أن الكلالة ههنا اسم الميت والكلالة حاله وصفته ، ولذلك انتصب وروى السميط بن عمير أن عمر رضي الله عنه قال : " أتى علي زمان وما أدري ما الكلالة ، وإنما الكلالة ما خلا الولد والوالد " وروى عاصم الأحول عن الشعبي قال : قال أبو بكر رضي الله عنه : " الكلالة ما خلا الولد والوالد " فلما طعن عمر رضي [ ص: 17 ] الله عنه قال : " رأيت أن الكلالة من لا ولد له ولا والد ، وإني لأستحيي الله أن أخالف أبا بكر ؛ هو ما عدا الوالد والولد " .

وروى طاوس عن ابن عباس قال : " كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب فسمعته يقول : القول ما قلت ، قلت : وما قلت ؟ قال : الكلالة من لا ولد له " .

وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد قال : سألت ابن عباس عن الكلالة فقال : " من لا ولد له ولا والد " قال : قلت : فإن الله تعالى يقول في كتابه : إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فغضب وانتهرني . فظاهر الآية وقول من ذكرناهم من الصحابة يدل على أن الميت نفسه يسمى كلالة ؛ لأنهم قالوا : " الكلالة من لا والد له ولا ولد " وقال بعضهم : " الكلالة من لا ولد له " وهذه صفة الموروث الميت ؛ لأنه معلوم أنهم لم يريدوا أن الكلالة هو الوارث الذي لا ولد له ولا والد ، إذ كان وجود الولد والوالد للوارث لا يغير حكم ميراثه من موروثه وإنما يتغير حكم الميراث بوجود هذه الصفة للميت المورث والذي يدل على أن اسم الكلالة قد يقع على بعض الوارثين ، ما رواه شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : " أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض ، فقلت : يا رسول الله كيف الميراث فإنما يرثني كلالة ؟ فنزلت آية الفرائض " ؛ وهذا الحرف تفرد به شعبة في رواية محمد بن المنكدر ؛ فأخبر جابر أن الكلالة ورثته ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وروى ابن عون عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن قال : حدثنا رجل من بني سعد : " أن سعدا مرض بمكة فقال : يا رسول الله ليس لي وارث إلا كلالة " ؛ فأخبر في هذا الخبر أيضا أن الكلالة هم الورثة وحديث سعد متقدم لحديث جابر ؛ لأن مرضه كان بمكة وليس فيه ذكر الآية ، فقال قوم : كان في حجة الوداع ، وقال قوم : كان في عام الفتح ؛ ويقال إن الصحيح أنه كان في عام الفتح ، وحديث جابر كان بالمدينة في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم وروى شعبة عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : " آخر آية نزلت : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وآخر سورة نزلت براءة " .

قال يحيى بن آدم : وقد بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله عن الكلالة : يكفيك آية الصيف وهي قوله تعالى : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة لأنها نزلت في الصيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى مكة ، ونزلت عليه آية الحج : ولله على الناس حج البيت وهي آخر آية نزلت بالمدينة ، ثم خرج إلى مكة فنزلت عليه بعرفة يوم عرفة : اليوم أكملت لكم دينكم الآية ، ثم نزلت عليه من الغد يوم النحر : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [ ص: 18 ] هذه الآية ثم لم ينزل عليه شيء بعدها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها ؛ هكذا سمعنا . قال يحيى : وفي حديث آخر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فقال : من مات وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة .

قال أبو بكر : ولم يذكر تاريخ الأخبار والآي ؛ لأن الحكم يتغير فيما ذكرنا بالتاريخ ، ولكنه لما جرى ذكر الآي والأخبار اتصل ذلك بها ، وإنما أردنا بذلك أن نبين أن اسم الكلالة يتناول الميت تارة وبعض الورثة تارة أخرى .

وقد اختلف السلف في الكلالة ، فروى جرير عن أبي إسحاق الشيباني عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب ، أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يورث الكلالة ؟ قال : أوليس قد بين الله تعالى ذلك ؟ ثم قرأ :وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة إلى آخر الآية ، فأنزل الله تعالى : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إلى آخرها ؛ قال : فكأن عمر لم يفهم ، فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس فسليه عنها فرأت منه طيب نفس فسألته عنها ، فقال : أبوك كتب لك هذا ؟ ما أرى أباك يعلمها أبدا ؛ قال : فكان عمر يقول : ما أراني أعلمها أبدا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال .

وروى سفيان عن عمرو بن مرة عن مرة قال : قال عمر : " ثلاث لأن يكون بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها : الكلالة والخلافة والربا " وروى قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة قال : قال عمر : ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بأصبعه في صدري ثم قال : يكفيك آية الصيف . وروي عن عمر أنه قال عند موته : " اعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئا " .

فهذه الأخبار التي ذكرنا تدل على أنه لم يقطع فيها بشيء وأن معناها والمراد بها كان ملتبسا عليه .

قال سعيد بن المسيب : كان عمر كتب كتابا في الكلالة ، فلما حضرته الوفاة محاه وقال : " ترون فيه رأيكم " ؛ فهذه إحدى الروايات عن عمر ، وروي عنه أنه قال : " الكلالة من لا ولد له ولا والد " وروي عنه أن الكلالة من لا ولد له . وروي عن أبي بكر الصديق وعلي وابن عباس في إحدى الروايتين : " أن الكلالة ما عدا الوالد والولد " وروى محمد بن سالم عن الشعبي عن ابن مسعود أنه قال : " الكلالة ما خلا الوالد والولد " وعن زيد بن ثابت مثله وروي عن ابن عباس رواية أخرى : " أن الكلالة ما خلا الولد " . قال أبو بكر : اتفقت الصحابة على أن الولد ليس من الكلالة ، واختلفوا في الوالد ، فقال الجمهور : " الوالد خارج من الكلالة " . وقال ابن عباس في [ ص: 19 ] إحدى الروايتين مثله ، وفي رواية أخرى أن الكلالة ما عدا الولد .

فلما اختلف السلف فيهما على هذه الوجوه وسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها فوكله إلى حكم الآية وما في مضمونها ، وهي قوله تعالى : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وقد كان عمر رجلا من أهل اللسان لا يخفى عليه ما طريق معرفته اللغة ؛ ثبت أن معنى اسم الكلالة غير مفهوم من اللغة وأنه من متشابه الآي التي أمرنا الله تعالى بالاستدلال على معناه بالمحكم ورده إليه ؛ ولذلك لم يجب النبي صلى الله عليه وسلم عمر عن سؤاله في معنى الكلالة ووكله إلى استنباطه والاستدلال عليه . وفي ذلك ضروب من الدلالة على المعاني .

أحدها : أن بمسألته إياه لم يلزمه توقيفه على معناها من طريق النص ؛ لأنه لو كان واجبا عليه توقيفه على معناها لما أخلاه النبي صلى الله عليه وسلم من بيانها وذلك أنه لم يكن أمر الكلالة في الحال التي سأل عنها حادثة تلزمه تنفيذ حكمها في الحال ، ولو كان كذلك لما أخلاه من بيانها ، وإنما سأله سؤال مستفهم مسترشد لمعنى الآية من طريق النص ، ولم يكن على النبي صلى الله عليه وسلم توقيف الناس على جليل الأحكام ودقيقها ؛ لأن منها ما هو مذكور باسمه وصفته ومنها ما هو مدلول عليه بدلالة مفضية إلى العلم به لا احتمال فيه ومنها ما هو موكول إلى اجتهاد الرأي ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عمر إلى اجتهاده ؛ وهذا يدل على أنه رآه من أهل الاجتهاد ، وأنه ممن قال الله تعالى : لعلمه الذين يستنبطونه منهم وفيه الدلالة على تسويغ اجتهاد الرأي في الأحكام وأنه أصل يرجع إليه في أحكام الحوادث والاستدلال على معاني الآي المتشابهة وبنائها على المحكم ؛ واتفاق الصحابة أيضا على تسوية الاجتهاد في استخراج معاني الكلالة يدل على ذلك ، ألا ترى أن بعضهم قال : " هو من لا ولد له ولا والد " وقال بعضهم : " من لا ولد له " وأجاب عمر بأجوبة مختلفة ووقف فيها في بعض الأحوال ولم ينكر بعضهم على بعض الكلام فيها بما أداه إليه اجتهاده ؟ وفي ذلك دليل على اتفاقهم على تسويغ الاجتهاد في الأحكام .

ويدل على أن ما روى أبو عمران الجوني عن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ؛ إنما هو فيمن قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول ، وأن من استدل على حكمه واستنبط معناه فحمله على المحكم المتفق على معناه فهو ممدوح مأجور ممن قال الله تعالى : لعلمه الذين يستنبطونه منهم

وقد تكلم أهل اللغة في معنى الكلالة ، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : " الكلالة كل من لم يرثه أب ولا ابن فهو [ ص: 20 ] عند العرب كلالة ، مصدر من تكلله النسب أي تعطف النسب عليه " قال أبو عبيدة : " من قرأها يورث بالكسر أراد من ليس بولد ولا والد " . قال أبو بكر والذي قرأه بالكسر الحسن وأبو رجاء العطاردي . قال أبو بكر : وقد قيل إن الكلالة في أصل اللغة هو الإحاطة ، فمنه الإكليل لإحاطته بالرأس ، ومنه الكل لإحاطته بما يدخل عليه ؛ فالكلالة في النسب من أحاط بالولد والوالد من الإخوة والأخوات وتكللهما وتعطف عليهما ، والولد والوالد ليسا بكلالة ؛ لأن أصل النسب وعموده الذي إليه ينتهي هو الولد والوالد ، ومن سواهما فهو خارج عنهما وإنما يشتمل عليهما بالانتساب عن غير جهة الولادة ممن نسب إليه كالإكليل المشتمل على الرأس وهذا يدل على صحة قول من تأولها على من عدا الوالد والولد وأن الولد إذا لم يكن من الكلالة كذلك الوالد ؛ لأن نسبة كل واحد منهما إلى الميت من طريق الولادة وليس كذلك الإخوة والأخوات ؛ لأن نسب كل واحد منهما لا يرجع إلى الميت من طريق ولاد بينهما ويشبه أن يكون من تأوله على من عدا الولد وأخرج الولد وحده من الكلالة ، أن الولد من الوالد وكأنه بعضه وليس الوالد من الولد كما ليس الأخ والأخت ممن ينسب إليه بالأخوة ، فاعتبر من قال ذلك الكلالة بمن لا ينسب إليه بأنه منه وبعضه ، فأما من كانت نسبته إلى الميت من حيث هو منه فليس بكلالة . وقد كان اسم الكلالة مشهورا في الجاهلية ، قال عامر بن الطفيل :

فإني وإن كنت ابن فارس عامر وفي السر منها والصريح المهذب     فما سودتني عامر عن كلالة
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب

وهذا يدل على أنه رأى الجد الذي انتسبوا إليه كلالة ، وأخبر مع ذلك أن سيادته ليست من طريق النسب والكلالة لكنه بنفسه ساد ورأس . وقال بعضهم : كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت ، وحمل فلان على فلان ثم كل عنه إذا تباعد ، والكلال هو الإعياء ؛ لأنه قد يبعد عليه تناول ما يريده ؛ وأنشد الفرزدق :

ورثتم قناة الملك غير كلالة     عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

يعني : ورثتموها بالآباء لا بالأخوة والعمومة

وذكر الله تعالى الكلالة في موضعين من كتابه :

أحدهما : قوله تعالى : قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك إلى آخر الآية ، فذكر ميراث الإخوة والأخوات [ ص: 21 ] عند عدم الولد وسماهم كلالة ؛ وعدم الوالد مشروط فيها وإن لم يكن مذكورا لقوله تعالى في أول السورة :وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس فلم يجعل للإخوة ميراثا مع الأب ، فخرج الوالد من الكلالة كما خرج الولد ؛ لأنه لم يورثهم مع الأب كما لم يورثهم مع الابن ، والبنت أيضا ليست بكلالة فإن ترك ابنة أو ابنتين وإخوة وأخوات لأب وأم أو لأب فالبنات لسن بكلالة ، ومن ورث معهما كلالة .

وقال تعالى في أول السورة : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث فهذه الكلالة هي الأخ والأخت لأم لا يرثان مع والد ولا ولد ذكرا كان أو أنثى . وقد روي أن في قراءة سعد بن أبي وقاص : " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت لأم " فلا خلاف مع ذلك أن المراد بالأخ والأخت ههنا إذا كانا لأم دونهما إذا كان لأب وأم أو لأب . وقد روي عن طاوس عن ابن عباس : " أن الكلالة ما عدا الولد ، وورث الإخوة من الأم مع الأبوين السدس ، وهو السدس الذي حجبت الأم عنه " ، وهو قول شاذ ، وقد بينا ما روي عنه أنها ما عدا الوالد والولد ؛ ولا خلاف أن الإخوة والأخوات من الأم يشتركون في الثلث ولا يفضل منهم ذكر على أنثى .

وقد اختلفوا في الجد هل يورث كلالة ، فقال قائلون : " لم يورث كلالة " . وقال آخرون : " بل هو كلالة " وهو قول من يورث الإخوة والأخوات مع الجد ، والأولى أن يكون خارجا من الكلالة لثلاثة أوجه :

أحدها : أنهم لا يختلفون أن ابن الابن خارج عن الكلالة ؛ لأنه منسوب إلى الميت بالولاد ، فواجب على هذا خروج الجد منها ؛ إذ كانت النسبة بينهما من طريق الولاد . ومن جهة أخرى : أن الجد هو أصل النسب كالأب وليس بخارج عنه ، فوجب أن يكون خارجا عن الكلالة ؛ إذ كانت الكلالة ما تكلل على النسب وتعطف عليه ممن ليس أصل النسب متعلقا به . والثالث : أنهم لا يختلفون أن قوله تعالى : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت لم يدخل فيه الجد وأنه خارج عنه لا يرث معه الإخوة من الأم كما لا يرثون مع الابن والبنت ، فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب في خروجه عن الكلالة ؛ وهذا يدل على أن الجد بمنزلة الأب في نفي مشاركة الإخوة والأخوات إياه في الميراث .

فإن قيل : هذا لا يدل على ما ذكرته من قبل [ ص: 22 ] أن البنت خارجة عن الكلالة ولا يرث معها الإخوة والأخوات من الأم ويرث معها الإخوة والأخوات من الأب والأم ، فكذلك الجد . قيل له : لم نجعل ما ذكرناه علة للمسألة فيلزمنا ما وصفت ، وإنما قلنا إنه لما لم يتناوله اسم الكلالة كالأب والابن اقتضى ظاهر الآية أن يكون ميراث الإخوة والأخوات عند عدمه إلا أن تقوم الدلالة على توريثهم معه ، والبنت وإن كانت خارجة عن الكلالة فقد قامت الدلالة على توريث الإخوة والأخوات من الأب معها ، فخصصناها من الظاهر وبقي حكم اللفظ فيما سواها ممن يشتمله اسم الكلالة ؛ والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية