الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      [ 50 ] ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون

                                                                                                                                                                                                                                      ومصدقا حال معطوفة على قوله " بآية " أي : جئتكم بآية ومصدقا : لما بين يدي من التوراة أي : مقررا لهما ومثبتا : ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم قال ابن كثير : فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة ، وهو الصحيح من القولين . ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئا ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ ، وانكشف لهم عن الغطاء في ذلك ، كما قال في الآية الأخرى : ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه والله أعلم . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      أقول : من البعض الذي أحله عيسى عليه السلام لهم : فعل الخير في السبوت ، وقد كانوا يعتقدون تحريم مطلق عمل يوم السبت ، ولذا لما اجتاز عليه السلام بالإسرائيليين مرة ، أبصر مريضا فسألوه : هل يحل أن يشفي في السبت ؟ فقال لهم عليه السلام : أي إنسان منكم يكون له خروف ، فيسقط في حفرة يوم السبت [ ص: 848 ] ولا يمسكه ويرفعه ؟ والإنسان كم يفضل الخروف ؟ فإذن يحل فعل الخير في السبوت ، ثم أبرأ ذلك المريض - كذا في الإصحاح الثاني عشر ، من الفقرة التاسعة إلى الثالثة عشرة من إنجيل متى - وفيه في الإصحاح الخامس الفقرة السابعة عشرة قول المسيح عليه السلام : لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل - انتهى - .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اتفقوا على أن المسيح عليه السلام أقام شرائع التوراة كلها ، ثم جاء بولس ومن بعده من الرهبان ، فادعوا أن المسيح عليه السلام فعل ذلك كله ورفعه عنهم ، إذ أكمله وأتمه بفعله إياه . وكفاهم مؤونة العمل بشيء منه ، وأغناهم بشريعته الروحانية ، فنقضوا الناموس الذي جاء لإكماله المسيح . فمما نقضوه إباحة كثير من الحيوانات المحرمة في الناموس الموسوي ، فنسخت حرمتها في الشريعة العيسوية ، وثبتت الإباحة العامة بفتوى بولس ، إذ قال لهم : لا شيء نجس العين ، كما في رسالته إلى أهل رومية . ومما نقضوه تعظيم السبت ، فقد كان حكما أبديا في الشريعة الموسوية ، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل ، وكان من عمل فيه عملا واجب القتل . ومنه أحكام الأعياد المشروعة في التوراة . ومنه حكم الختان الذي كان أبديا في شريعة إبراهيم عليه السلام وأولاده إلى شريعة موسى ، وقد ختن عيسى عليه السلام ، فنسخ حكمه الرهبان بعده ، كما نسخوا جميع الأحكام العملية للتوراة ، إلا الزنى ، كما بين في ( إظهار الحق ) ، في الباب الثالث في إثبات النسخ ، وقد أسلفنا جملة جليلة في هذا الشأن في سورة البقرة عند قوله تعالى : وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا فانظرها وجئتكم بآية من ربكم كرره تأكيدا ، وليبنى عليه قوله : فاتقوا الله وأطيعون

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 849 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية