الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ( 85 ) وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ( 86 ) )

يعني تعالى ذكره بإسماعيل إسماعيل بن إبراهيم صادق الوعد ، وبإدريس أخنوخ ، وبذي الكفل رجلا تكفل من بعض الناس ، إما من نبي وإما من ملك من صالحي الملوك بعمل من الأعمال ، فقام به من بعده ، فأثنى الله عليه حسن وفائه بما تكفل به ، وجعله من المعدودين في عباده ، مع من حمد صبره على طاعة الله ، وبالذي قلنا في أمره جاءت الأخبار عن سلف العلماء .

[ ص: 508 ] ذكر الرواية بذلك عنهم : حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث : أن نبيا من الأنبياء ، قال : من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ، ولا يغضب ؟ فقام شاب فقال : أنا ، فقال : اجلس : ثم عاد فقال : من تكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ، ولا يغضب ؟ فقام ذلك الشاب فقال : أنا ، فقال : اجلس ، ثم عاد فقال : من تكفل لي أن يقوم الليل ، ويصوم النهار ، ولا يغضب ؟ فقام ذلك الشاب فقال : أنا ، فقال : تقوم الليل ، وتصوم النهار ، ولا تغضب فمات ذلك النبي ، فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بين الناس ، فكان لا يغضب ، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم يريد أن يقيل ، فضرب الباب ضربا شديدا ، فقال : من هذا ؟ فقال : رجل له حاجة ، فأرسل معه رجلا فقال : لا أرضى بهذا الرجل ، فأرسل معه آخر ، فقال : لا أرضى بهذا ، فخرج إليه فأخذ بيده ، فانطلق معه ، حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب ، فسمي ذا الكفل .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عفان بن مسلم ، قال : ثنا وهيب ، قال : ثنا داود ، عن مجاهد ، قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت على الناس رجلا يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل ، قال : فجمع الناس ، فقال : من يتقبل لي بثلاث أستخلفه : يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب ، قال : فقام رجل تزدريه العين ، فقال : أنا ، فقال : أنت تصوم النهار ، وتقوم الليل ولا تغضب ؟ قال : نعم ، قال : فردهم ذلك اليوم ، وقال مثلها اليوم الآخر ، فسكت الناس وقام ذلك الرجل ، فقال : أنا ، فاستخلفه ، قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان ، فأعياهم ، فقال : دعوني وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة ، فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم ، قال : فقام ففتح الباب ، فجعل يقص عليه ، فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا ، فجعل يطول عليه ، حتى حضر الرواح ، وذهبت القائلة ، وقال : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك ، فانطلق وراح ، فكان في مجلسه ، فجعل ينظر هل يرى الشيخ ، فلم يره ، فجعل يبتغيه فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس [ ص: 509 ] وينتظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة ، فأخذ مضجعه ، أتاه فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : الشيخ الكبير المظلوم ، ففتح له ، فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ، فقال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد ، قالوا نحن نعطيك حقك ، وإذا قمت جحدوني ، قال : فانطلق فإذا رحت فأتني ، قال : ففاتته القائلة ، فراح فجعل ينظر فلا يراه ، فشق عليه النعاس ، فقال لبعض أهله : لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام ، فإني قد شق علي النوم ، فلما كان تلك الساعة جاء ، فقال له الرجل وراءك ، فقال : إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري ، قال : والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه ، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت ، فتسور منها ، فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدق الباب ، قال : واستيقظ الرجل فقال : يا فلان ، ألم آمرك ؟ قال : أما من قبلي والله فلم تؤت ، فانظر من أين أتيت ، قال : فقام إلى الباب ، فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا هو معه في البيت ، فعرفه فقال : أعدو الله ؟ قال : نعم أعييتني في كل شيء ، ففعلت ما ترى لأغضبك ، فسماه ذا الكفل ، لأنه تكفل بأمر فوفى به .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله ( وذا الكفل ) قال رجل صالح غير نبي ، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ، ويقيمه لهم ، ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ذلك ، فسمي ذا الكفل .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : ويقضي بينهم بالحق .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس قال : كان في بني إسرائيل ملك صالح ، فكبر ، فجمع قومه فقال : أيكم يكفل لي بملكي هذا على أن يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله ، ولا يغضب ؟ قال : فلم يقم أحد إلا فتى شاب ، فازدراه لحداثة سنه فقال : أيكم يكفل لي بملكي هذا على أن يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب ، ويحكم بين بني إسرائيل بما أنزل الله ؟ فلم يقم إلا ذلك الفتى ، قال : فازدراه ، فلما كانت الثالثة قال مثل [ ص: 510 ] ذلك ، فلم يقم إلا ذلك الفتى ، فقال : تعال ، فخلى بينه وبين ملكه ، فقام الفتى ليلة ، فلما أصبح جعل يحكم بين بني إسرائيل ، فلما انتصف النهار دخل ليقيل ، فأتاه الشيطان في صورة رجل من بني آدم ، فجذب ثوبه ، فقال : أتنام والخصوم ببابك ؟ قال : إذا كان العشية فأتني ، قال : فانتظره بالعشي فلم يأته ، فلما انتصف النهار دخل ليقيل ، جذب ثوبه ، وقال : أتنام والخصوم على بابك ؟ قال : قلت لك : ائتني العشي فلم تأتني ، ائتني بالعشي ، فلما كان بالعشي انتظره فلم يأت ، فلما دخل ليقيل جذب ثوبه ، فقال : أتنام والخصوم ببابك ؟ قال : أخبرني من أنت ، لو كنت من الإنس سمعت ما قلت ، قال : هو الشيطان ، جئت لأفتنك فعصمك الله مني ، فقضى بين بني إسرائيل بما أنزل الله زمانا طويلا وهو ذو الكفل ، سمي ذا الكفل لأنه تكفل بالملك .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي موسى الأشعري ، قال وهو يخطب الناس : إن ذا الكفل لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا تكفل بعمل رجل صالح عند موته ، كان يصلي لله كل يوم مائة صلاة ، فأحسن الله عليه الثناء في كفالته إياه .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم ، قال : ثنا عمرو ، قال : أما ذو الكفل فإنه كان على بني إسرائيل ملك ، فلما حضره الموت ، قال : من يكفل لي أن يكفيني بني إسرائيل ، ولا يغضب ، ويصلي كل يوم مائة صلاة ، فقال ذو الكفل : أنا ، فجعل ذو الكفل يقضي بين الناس ، فإذا فرغ صلى مائة صلاة ، فكاده الشيطان ، فأمهله حتى إذا قضى بين الناس ، وفرغ من صلاته وأخذ مضجعه فنام ، أتى الشيطان بابه فجعل يدقه ، فخرج إليه ، فقال : ظلمت وصنع بي ، فأعطاه خاتمه وقال : اذهب فأتني بصاحبك ، وانتظره ، فأبطأ عليه الآخر ، حتى إذا عرف أنه قد نام وأخذ مضجعه ، أتى الباب أيضا كي يغضبه ، فجعل يدقه ، وخدش وجه نفسه فسالت الدماء ، فخرج إليه فقال : ما لك ؟ فقال : لم يتبعني ، وضربت وفعل ، فأخذه ذو الكفل ، وأنكر أمره ، فقال : أخبرني من أنت ؟ وأخذه أخذا شديدا ، قال : فأخبره من هو .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( وذا الكفل ) قال : قال أبو موسى الأشعري : لم يكن ذو الكفل [ ص: 511 ] نبيا ، ولكنه كفل بصلاة رجل كان يصلي كل يوم مائة صلاة ، فوفى ، فكفل بصلاته ، فلذلك سمي ذا الكفل ،ونصب إسماعيل وإدريس وذا الكفل ، عطفا على أيوب ، ثم استؤنف بقوله ( كل ) فقال ( كل من الصابرين ) ومعنى الكلام : كلهم من أهل الصبر فيما نابهم في الله .

وقوله ( وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين ) يقول تعالى ذكره : وأدخلنا إسماعيل وإدريس وذا الكفل ، والهاء والميم عائدتان عليهم ( في رحمتنا إنهم من الصالحين ) يقول : إنهم ممن صلح ، فأطاع الله ، وعمل بما أمره . . .

التالي السابق


الخدمات العلمية