الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما تبين بهذا الآيات أن الدنيا مبنية على الفناء والزوال ، والقلعة والارتحال ، وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال تعالى مشيرا بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون : وما هذه الحياة الدنيا فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة مع الإشارة إلى أن الاعتراف بهذا الاسم كاف في الإلزام بالاعتراف بالأخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان مقصود السورة الحث على الجهاد والنهي عن المنكر ، وكان في معرض سلب العقل عنهم ، قدم اللهو لأن الإعراض عنه يحسم مادة الشر فإنه الباعث عليه فقال : إلا لهو أي : شيء يلهي عما ينفع [ ص: 475 ] ولعب يشتغل به صبيان العقول ، وكل غافل وجهول ، فإن اللهو كل شيء من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء وغيره ، فيحصل به فرح وزيادة سرور ، فيكون سببا للغفلة والذهول والنسيان والشغل عن استعمال العقل في اتباع ما ينجي في الآخرة فينشأ عنه ضلال - على ما أشارت إليه آية لقمان - : يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ومنه اللعب ، وهو فعل ما يزيد النفس في دنياها سرورا كالرقص بعد السماع وينقضي بسرعة لأنه ضد الجد ومثل الهزل ، و[هو] كل شيء سافل ، وكل باطل يقصد به زيادة البسط والترويح والتمادي في قطع الزمان فيما يشتهي من غير تعب ، واللعبة بالضم- : التمثال ، وما يلعب به كالشطرنج ، والأحمق يسخر به ، ولعب لعبا : مرح ، وفي الأمر والدين : استخف به.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت ، أخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها فقال : وإن الدار الآخرة لهي أي : خاصة الحيوان أي : الحياة التامة الباقية العامة الوافية نفسها من حيث أنه لا موت فيها ولا فناء لشيء من الأشياء ، ولذلك اختير هذا البناء الدال على المبالغة ، وحركته مشعرة بما في الحياة من مطلق الحركة والاضطراب ، فلا انقضاء لشيء من لعبها ولا لهواها الذي [لا] يوافق ما في الدنيا إلا في الصورة فقط [ ص: 476 ] لا في المعنى ، لأنه ليس فيها شيء سافل لا في الباعث ولا في المبعوث إليه ، بل كان ذلك بالتسبيح والتقديس وما يترتب عليه من المعارف والبسط والترويح ، والانشراح والأنس والتفريح.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانوا [قد] غلطوا في الدارين كلتيهما فأنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها ، فعدوا الدنيا وجودا دائما على هذا الحالة والآخرة عدما ، لا وجود لها بوجه ، قال : لو كانوا [أي : ] كونا هو كالجبلة يعلمون أي : لهم علم ما لم يغلطوا في واحدة منهما فلم يركبوا مع إيثارهم للحياة وشدة نفرتهم من الموت ، لاعتقادهم أن لا قيام بعده إلى الدنيا ، مع أن أصلها عدم الحياة الذي هو الموتان.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية