الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل )

( ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام ) ; لقوله عليه الصلاة والسلام { لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة } والمراد إحداثها [ ص: 58 ] ( وإن انهدمت البيع والكنائس القديمة أعادوها ) لأن الأبنية لا تبقى دائما ، ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة إلا أنهم لا يمكنون من نقلها ; لأنه إحداث في الحقيقة ، [ ص: 59 ] والصومعة للتخلي فيها بمنزلة البيعة ، بخلاف موضع الصلاة في البيت ; لأنه تبع للسكنى ، وهذا في الأمصار دون القرى ; لأن الأمصار هي التي تقام فيها الشعائر فلا تعارض بإظهار ما يخالفها .

وقيل في ديارنا يمنعون من ذلك في القرى أيضا ; لأن فيها بعض الشعائر ، والمروي عن صاحب المذهب في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل الذمة . وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها [ ص: 60 ] لقوله عليه الصلاة والسلام { لا يجتمع دينان في جزيرة العرب } .

التالي السابق


( فصل ) لما كانت هذه الأحكام تتعلق بالذمي باعتبار غيره وما مضى باعتبار نفسه قدم تلك . ( قوله ولا يجوز إحداث بيعة ) بكسر الباء ( ولا كنيسة في دار الإسلام ) وهما متعبدا اليهود والنصارى ، ثم غلبت الكنيسة لمتعبد اليهود [ ص: 58 ] والبيعة لمتعبد النصارى ، وفي ديار مصر لا يستعمل لفظ البيعة بل الكنيسة لمتعبد الفريقين ، ولفظ الدير للنصارى خاصة . وقيد المصنف عموم دار الإسلام بالأمصار دون القرى ; لأن الأمصار هي التي تقام فيها الشعائر ، فإحداثها فيها معارضة بإظهار ما يخالفها فلا يجوز ، بخلاف القرى .

ثم ذكر أن في قرى ديارنا أيضا لا تحدث في هذا الزمان . ثم قال القدوري : ( وإن انهدمت البيع والكنائس القديمة أعادوها ) قال المصنف : ( لأن الأبنية لا تبقى دائما ، ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة ضمنا غير أنهم لا يمكنون من نقلها من مكان إلى آخر ; لأنه إحداث ) في ذلك المكان المنقول إليه فلا يجوز ، وفي هذا التعليل إشارة إلى أن ذلك إذا كان بإقرار الإمام إياهم على ذلك ، وذلك إذا صالحهم على إقرارهم على أراضيهم سواء كان إماما في زمن الصحابة والتابعين أو بعدهم .

قيل أمصار المسلمين ثلاثة : أحدها ما مصره المسلمون كالكوفة والبصرة وبغداد وواسط ، فلا يجوز فيها إحداث بيعة ولا كنيسة ولا مجتمع لصلاتهم ولا صومعة بإجماع أهل العلم ، ولا يمكنون فيه من شرب الخمر واتخاذ الخنازير وضرب الناقوس . وثانيها ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز فيها إحداث شيء بالإجماع ، وما كان فيها شيء من ذلك هل يجب هدمه ؟ فقال مالك والشافعي في قول وأحمد في رواية : يجب . وعندنا جعلهم ذمة أمرهم أن يجعلوا كنائسهم مساكن ، ويمنع من صلاتهم فيها ولكن لا تهدم ، وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد ; لأن الصحابة فتحوا كثيرا من البلاد عنوة ، ولم يهدموا كنيسة ، ولا ديرا ، ولم ينقل ذلك قط . وثالثها ما فتح صلحا ، فإن صالحهم على أن الأرض لهم والخراج لنا جاز إحداثهم ، وإن صالحهم على أن الدار لنا ويؤدون الجزية فالحكم في الكنائس على ما يوقع عليه الصلح ، فإن صالحهم على شرط تمكين الإحداث لا يمنعهم ، إلا أن الأولى أن لا يصالحهم إلا على ما وقع عليه صلح عمر رضي الله عنه من عدم إحداث شيء منها ، وإن وقع الصلح مطلقا لا يجوز الإحداث ولا يتعرض للقديمة ويمنعون من ضرب الناقوس وشرب الخمر واتخاذ الخنزير بالإجماع انتهى .

وقوله : يمنعون من شرب الخمر : أي التجاهر به وإظهاره . وفي المحيط : لو ضربوا الناقوس في جوف كنائسهم لا يمنعون انتهى . وقال محمد : كل قرية من قرى أهل الذمة أو مصر أو حديقة لهم أظهروا فيها شيئا من الفسق مثل الزنا والفواحش التي يحرمونها في دينهم يمنعون منه ، وكذا عن المزامير والطنابير والغناء ، ومن كسر شيئا من ذلك لم يضمن . واعلم أن البيع والكنائس القديمة في السواد لا تهدم على الروايات كلها ، وأما في الأمصار فاختلف كلام محمد ، فذكر في العشر والخراج تهدم القديمة ، وذكر في الإجارة أنها لا تهدم وعمل الناس على هذا ، فإنا رأينا كثيرا منها توالت عليها أئمة وأزمان وهي باقية لم يأمر بهدمها إمام فكان متوارثا من عهد الصحابة رضي الله عنهم ، وعلى هذا لو مصرنا برية فيها دير [ ص: 59 ] أو كنيسة فوقع في داخل السور ينبغي أن لا يهدم ; لأنه كان مستحقا للأمان قبل وضع السور ، فيحمل ما في جوف القاهرة من الكنائس على ذلك ; لأنها كانت فضاء فأدار العبيديون عليها السور ثم فيها الآن كنائس ، ويبعد من إمام تمكين الكفار من إحداثها جهارا في جوف المدن الإسلامية ، فالظاهر أنها كانت في الضواحي فأدير السور عليها فأحاط بها ، وعلى هذا فالكنائس الموجودة الآن في دار الإسلام غير جزيرة العرب كلها ينبغي أن لا تهدم ; لأنها إن كانت في أمصار قديمة فلا شك أن الصحابة أو التابعين حين فتحوا المدينة علموا بها وبقوها ، وبعد ذلك ينظر فإن كانت البلدة فتحت عنوة حكمنا بأنهم بقوها مساكن لا معابد فلا تهدم ولكن يمنعون من الاجتماع فيها للتقرب ، وإن عرف أنها فتحت صلحا حكمنا بأنهم أقروها معابد فلا يمنعون من ذلك فيها بل من الإظهار .

وانظر إلى قول الكرخي : إنهم إذا حضر لهم عيد يخرجون فيه صلبانهم وغير ذلك فليصنعوا في كنائسهم القديمة من ذلك ما أحبوا ، فأما أن يخرجوا ذلك من الكنائس حتى يظهر في المصر فليس لهم ذلك ، ولكن ليخرجوا خفية من كنائسهم ، واستدل المصنف على عدم الإحداث بقوله صلى الله عليه وسلم { لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة } . قال المصنف رحمه الله : المراد إحداثها ، وهذا ; لأن البيعة قد تحققت كثيرا من الصحابة في الصلح . وفي رواية البيهقي تصريح بذلك في سننه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا خصاء في الإسلام ولا بنيان كنيسة } وضعفه . ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا عبيد الله بن صالح ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثني توبة بن النمر الحضرمي قاضي مصر عمن أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة } قال : وروى أبو الأسود عن ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب عن أبي الخير قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا كنيسة في الإسلام ولا خصاء .

وروى ابن عدي في الكامل بسنده إلى عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يبنى ما خرب منها } وأعل بسعيد بن سنان ، وإذا تعددت طرق الضعيف يصير حسنا .

ثم قيل : المراد بالخصاء نزع الخصيتين ، وقيل كناية عن التخلي عن إتيان النساء ( والصومعة ) وهو ما يبنى ( للتخلي ) عن الناس والانقطاع ( فيها ) لهم مثلها فيمنع أيضا وكذا يمنع بيت نار .

( والمروي عن صاحب المذهب ) يعني أبا حنيفة رضي الله عنه كان ( في قرى الكوفة ; لأن أكثر أهلها أهل ذمة ) بخلاف قرى المسلمين اليوم ، ولذا قال شمس الأئمة في شرحه في كتاب الإجارات : الأصح عندي أنهم يمنعون عن ذلك في السواد ، وإن كان هو في السير الكبير قال : إن كانت قرية غالب أهلها أهل الذمة لا يمنعون ، وأما القرية التي سكنها المسلمون اختلف المشايخ فيها على ما ذكرنا ، فصار إطلاق منع الإحداث هو المختار فصدق تعميم القدوري منعها في دار الإسلام . ( قوله : وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها ) فلا يحدث فيها كنيسة ولا تقر ; لأنهم لا يمكنون من السكنى بها فلا فائدة في إقرارها ، إلا أن تتخذ دار سكنى ولا يباع بها [ ص: 60 ] خمر ولا في قرية منها ولا في ماء من مياه العرب ويمنعون من أن يتخذوا أرض العرب مسكنا ووطنا ، بخلاف أمصار المسلمين التي ليست في جزيرة العرب يمكنون من سكناها ولا خلاف في ذلك . وذلك ( لقوله صلى الله عليه وسلم { لا يجتمع دينان في جزيرة العرب } ) أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده : أخبرنا النضر بن شميل ، حدثنا صالح بن أبي الأحوص ، حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه { لا يجتمع دينان في جزيرة العرب } ورواه عبد الرزاق قال : أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يجتمع بأرض العرب ، أو قال بأرض الحجاز دينان } ورواه في الزكاة وزاد فيه : " فقال عمر لليهود : من كان منكم عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت به ، وإلا فإني مجليكم ، قال : فأجلاهم عمر " . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك في مرض موته . قال الدارقطني في علله : هذا صحيح ، ورواه مالك في الموطإ . قال مالك : قال ابن شهاب : ففحص عمر عن ذلك حتى أتاه اليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يجتمع دينان في جزيرة العرب } فأجلى يهود خيبر وأجلى يهود نجران وفدك .

وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما { لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب } وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ، وسميت جزيرة لانجزار المياه التي حواليها عنها كبحر البصرة وعمان وعدن والفرات . وقيل ; لأن حواليها بحر الحبش وبحر فارس ودجلة والفرات . وقال الأزهري : سميت بذلك ; لأن بحر فارس وبحر السودان أحاطا بجانبها الجنوبي ، وأحاط بالجانب الشمالي دجلة والفرات . وقال المنذري في مختصره : قال مالك : جزيرة العرب المدينة نفسها ، وروي أنها الحجاز واليمن واليمامة ، وحكى البخاري عن المغيرة قال : هي أرض مكة والمدينة .




الخدمات العلمية