الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة

فيمن استدل بتحويل النبي صلى الله عليه وسلم رداءه في الاستسقاء، وجعل أعلاه أسفله، ورفع ظاهر كفيه إلى السماء، وجعل باطنها إلى الأرض - على أن الله ليس فوق السماوات على العرش بائن من الخلق، وأنه بذاته لا يختص بجهة العلو، هل هو مصيب في ذلك الاستدلال أم لا؟ وما معنى الحديث؟ وهل لقول طائفة من الفقهاء إنه يستحب لمن هو في شدة أن يرفع ظاهر كفيه إلى السماء دون باطنها وجه؟ ولو فرض أن الحديث يدل على ذلك ولو على بعد، فهل مثل ذلك -مع ما يزعمونه أدلة عقلية دلت على استحالة ذلك- يعارض ما ثبت بالكتاب والسنة من أن الله تعالى مستو على عرشه بائن من خلقه فوق كل شيء وعال على كل شيء أم لا؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين. استدلال المستدل بهذا وإن سبقه إلى نحو منه من المتجهمة المنتسبة إلى الحديث، فإنه يدل على غاية الجهل بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وغاية الجهل في الاستدلال بذلك على نفي علو الله، إذ ما فعله يدل على نقيض مطلوب هذا المستدل الجاهل. ونحن نبين ذلك بالكلام على ما [ ص: 80 ] فعله من تحويل الرداء، ومن رفع يديه في الاستسقاء.

أما الفصل الأول - وهو تحويل الرداء - فما علمت أحدا يستدل به على نفي العلو، ولا فيه شبهة تقتضي ذلك، وإنما المعروف عن بعضهم أنه يستدل برفع اليدين، فهذا هو الذي يعترض به بعض الناس، فأما الرداء فلا، ولكن نتكلم على الفصلين.

أما الأول فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل أعلاه أسفله كما قاله هذا المستدل، وإنما جعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن، وقلبه فجعل باطنه ظاهرا وظاهره باطنا، كما جاء مفسرا في الأحاديث المعروفة في الباب، فإن في الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فاستسقى، واستقبل القبلة، وقلب رداءه، وصلى ركعتين. وفي لفظ: استقبل القبلة، وحول رداءه. فلفظ الحديث جاء بلفظ القلب وبلفظ التحويل، ورواه البخاري من وجوه بلفظ التحويل، وذكر عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: جعل اليمين على الشمال.

ورواه أبو داود من حديث عبد الله بن زيد أيضا، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي، قال: فحول رداءه، وجعل عطافه الأيمن [ ص: 81 ] على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله عز وجل.

ورواه مالك وأحمد أيضا - واللفظ له - من حديث عبد الله بن زيد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استسقى لنا أطال الدعاء وأكثر المسألة، قال: ثم تحول إلى القبلة وحول رداءه فقلبه ظهرا لبطن.

ورواه الدارقطني أيضا من حديث عبد الله بن زيد قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة، فقلب رداءه وصلى ركعتين. قال سفيان: جعل اليمين على الشمال والشمال على اليمين.

ورواه أحمد وأبو داود أيضا عنه قال: استسقى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فثقلت عليه، فقلبها الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن. فهذا فيه أيضا ما في سائر الأحاديث، أنه قلب الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن، لكن فيه ذكر الراوي أنه هم بجعل أسفلها أعلاها، فهذا ليس فيه أنه فعل ذلك، وإنما فيه أن الراوي ظن أنه أراد فعله، والظن قد يصيب وقد يخطئ. [ ص: 82 ]

فهذه أحاديث عبد الله بن زيد، وحديثه أشهر حديث في تحويل الرداء وفي صلاة الاستسقاء، وأصح الأحاديث في ذلك، فيها تارة متصلا بالحديث وتارة من تفسير الرواة أنه جعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن، وفيها تصريح بأنه لم يفعل الأعلى أسفل ولا الأسفل أعلى. وكذلك غيره من الحديث مثل حديث أبي هريرة الذي رواه أحمد وابن ماجه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله عز وجل، وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن.

وكذلك رواه الدارقطني من حديث ابن عباس قال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب رداءه، فجعل يمينه على يساره ويساره على يمينه، وذكر تمامه. وفي إسناده مقال يصلح للاعتضاد والاستشهاد.

وتحويل الرداء في دعاء الاستسقاء سنة عند فقهاء الحجاز وفقهاء الحديث كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو قول صاحبي أبي حنيفة [ ص: 83 ] أبي يوسف ومحمد، كما أن الصلاة في الاستسقاء سنة عند هؤلاء، وأبو حنيفة لم يبلغه لا الصلاة في الاستسقاء ولا تحويل الرداء في دعائه.

التالي السابق


الخدمات العلمية