الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " ولو حل دابة ، أو فتح قفصا عن طائر فوقفا ثم ذهبا لم يضمن ؛ لأنهما أحدثا الذهاب " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في رجل حل دابة مربوطة ، أو فتح قفصا عن طائر محبوس فشردت الدابة وطار الطائر فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون شرود الدابة وطيران الطائر بتهييجه وتنفيره فعليه الضمان إجماعا وإنما لزمه الضمان وإن كان الحل سببا ، والطيران مباشرة ؛ لأنه قد ألجأه بالتهييج ، والتنفير إلى الطيران وإذا انضم إلى السبب إلجاء تعلق الحكم بالسبب الملجئ وسقط حكم الفاعل كالشاهدين على رجل بالقتل إذا اقتص منه الحاكم بشهادتهما ثم رجعا تعلق الضمان عليهما دون الحاكم ؛ لأنهما ألجآه بالشهادة فسقط حكم المباشرة .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن لا يكون منه تهييج ، ولا تنفير للدابة ، والطائر ففيه حالتان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يلبثا بعد حل الرباط وفتح القفص زمانا وإن قل فلا ضمان عليه ؛ لانفصال السبب عن المباشرة وبه قال أبو حنيفة . وقال مالك : عليه الضمان .

                                                                                                                                            والحالة الثانية : أن تشرد الدابة ويطير الطائر في الحال من غير لبث ففي الضمان لأصحابنا وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة عليه الضمان لاتصال السبب وهو قول أبي حنيفة .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو ظاهر نص الشافعي - رضي الله عنه - في كتاب اللقطة لا ضمان عليه لعدم الإلجاء واستدل مالك ومن تابعه على وجوب الضمان متصلا ومنفصلا بأن أسباب التلف [ ص: 209 ] المضمونة كحفر البئر وفتح القفص سبب للتلف فوجب أن يتعلق به الضمان ولأن كل ما يتعلق به الضمان مع اتصاله بسببه جاز أن يتعلق به الضمان مع انفصاله عن سببه كالجارح يضمن إن تعجل التلف ، أو تأجل .

                                                                                                                                            ودليلنا هو أن للحيوان اختيارا يتصرف به كما يشاهد عيانا من قصده لمنافعه واجتنابه لمضاره ، ثم لما قد استقر حكما من تحريم ما قد صاده باسترساله وتحليل ما صاده باسترسال مرسله فإذا اجتمع السبب والاختيار ، تعلق الحكم بالاختيار دون السبب ، كملقي نفسه مختارا في بئر يسقط الضمان باختياره عن حافر البئر ، وطيران الطائر باختياره ؛ لأنه غير ملجأ ، وقد كان يجوز بعد فتح القفص ألا يطير فوجب إذا طار بعد الفتح أن لا يتعلق بالفتح ضمان ، ولأن طيران الطائر بفتح القفص كهرب العبد المحبوس إذا فتح عنه الحبس ، فلما كان فاتح الحبس عن العبد المحبوس لا يضمنه إن هرب ، فكذلك فاتح القفص عن الطائر لا يضمنه إن طار ، ولأن مثابة من فتح القفص عن الطائر حتى طار بمثابة من هتك حرز مال حتى سرق ، ثم كان لو فتح باب دار فيها مال فسرق لم يضمنه فكذلك القفص إذا فتح بابه حتى طار طائره لم يضمنه ؛ ولأن فتح القفص يكون تعديا على القفص دون الطائر ، بدليل أنه لو مات الطائر في القفص بعد فتحه لم يضمنه قط ، وما انتفي عنه التعدي لم يضمن به .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بأن أسباب التلف مضمونة كحافر البئر يضمن ما سقط فيها فهو أنهما سواء وذاك أن من طابع الحيوان توقي التالف فإذا سقط في البئر دل على أن سقوطه بغير اختياره فضمن الحافر ولو علمنا أنه سقط باختياره بإلقاء نفسه عمدا سقط الضمان عن الحافر ، والطير مطبوع على الطيران عند القدرة إلا في أوقات الاستراحة فإذا طار دل على أن طيرانه باختياره فسقط الضمان عن فاتح القفص ولو علمنا أنه طار بغير اختياره بالإلجاء ، والتنفير وجب الضمان على فاتح القفص فكان سواء . فأما استدلالهم باستواء الأسباب فيما تعجل بها التلف ، أو تأجل فلأصحابنا في ضمانه إذا طار عقب الفتح وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يضمنه ، فعلى هذا سقط السؤال .

                                                                                                                                            والثاني : يضمنه ، فعلى هذا يكون الفرق بين أن يطير في الحال فيضمن وبين أن يطير بعد زمان فلا يضمن ، هو أن الطير مطبوع على النفور من الإنسان ، فإذا طار في الحال علم أنه طار لنفوره منه فصار كتنفيره إياه ، وإذا لبث زمانا لم يوجد منه النفور فصار طائرا باختياره ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية