الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ( 33 ) )

اختلف أهل التأويل في معنى المنافع التي ذكر الله في هذه الآية وأخبر عباده أنها إلى أجل مسمى ، على نحو اختلافهم في معنى الشعائر التي ذكرها جل ثناؤه في قوله : ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) فقال الذين قالوا عنى بالشعائر البدن . معنى ذلك : لكم أيها الناس في البدن منافع . ثم اختلف أيضا الذين قالوا هذه المقالة في الحال التي لهم فيها منافع ، وفي الأجل الذي قال عز ذكره : ( إلى أجل مسمى ) فقال بعضهم : الحال التي أخبر الله جل ثناؤه أن لهم فيها منافع ، هي الحال التي لم يوجبها صاحبها ولم يسمها بدنة ولم يقلدها . قالوا : ومنافعها فى هذه الحال : شرب ألبانها ، وركوب ظهورها ، وما يرزقهم الله من نتاجها وأولادها . قالوا : والأجل المسمى الذي أخبر جل ثناؤه أن ذلك لعباده المؤمنين منها إليه ، هو إلى إيجابهم إياها ، فإذا أوجبوها بطل ذلك ولم يكن لهم من ذلك شيء .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم عن ابن عباس في : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) قال : ما لم يسم بدنا .

حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) قال : الركوب واللبن والولد ، فإذا سميت بدنة أو هديا ذهب كله .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في هذه الآية : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) قال : لكم في ظهورها وألبانها وأوبارها ، حتى تصير بدنا .

قال : ثنا ابن عدي ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، بمثله . [ ص: 624 ] حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) قال : في أشعارها وأوبارها وألبانها قبل أن تسميها بدنة .

قال : ثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) قال : في البدن لحومها وألبانها وأشعارها وأوبارها وأصوافها قبل أن تسمى هديا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله ، وزاد فيه : وهي الأجل المسمى .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء أنه قال في قوله : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ) قال : منافع في ألبانها وظهورها وأوبارها ( إلى أجل مسمى ) إلى أن تقلد .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثل ذلك .

حدثني يعقوب ، قال : قال ابن علية : سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) قال : إلى أن توجبها بدنة .

قال : ثنا ابن علية عن ابن أبي نجيح ، عن قتادة : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) يقول : في ظهورها وألبانها ، فإذا قلدت فمحلها إلى البيت العتيق .

وقال آخرون ممن قال الشعائر البدن في قوله : ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) والهاء في قوله : ( لكم فيها ) من ذكر الشعائر ، ومعنى قوله : ( لكم فيها منافع ) لكم في الشعائر التي تعظمونها لله منافع بعد اتخاذكموها لله بدنا أو هدايا ، بأن تركبوا ظهورها إذا احتجتم إلى ذلك ، وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها . قالوا : والأجل المسمى الذي قال جل ثناؤه : ( إلى أجل مسمى ) إلى أن تنحر .

ذكر من قال ذلك : - حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام عن عنبسة ، [ ص: 625 ] عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) قال : هو ركوب البدن ، وشرب لبنها إن احتاج .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح في قوله : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) قال : إلى أن تنحر ، قال : له أن يحملها عليها المعيى والمنقطع به من الضرورة ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركب عند منهوكه . قلت لعطاء : ما ؟ قال : الرجل الراجل ، والمنقطع به ، والمتبع وإن نتجت أن يحمل عليها ولدها ، ولا يشرب من لبنها إلا فضلا عن ولدها ، فإن كان في لبنها فضل فليشرب من أهداها ومن لم يهدها . وأما الذين قالوا : معنى الشعائر في قوله : ( ومن يعظم شعائر الله ) . شعائر الحج ، وهي الأماكن التي ينسك عندها لله ، فإنهم اختلفوا أيضا في معنى المنافع التي قال الله : ( لكم فيها منافع ) فقال بعضهم : معنى ذلك : لكم في هذه الشعائر التي تعظمونها منافع بتجارتكم عندها وبيعكم وشرائكم بحضرتها وتسوقكم . والأجل المسمى : الخروج من الشعائر إلى غيرها ومن المواضع التي ينسك عندها إلى ما سواها في قول بعضهم .

حدثني الحسن بن علي الصدائي ، قال : ثنا أبو أسامة عن سليمان الضبي ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ، في قوله : ( لكم فيها منافع ) قال : أسواقهم ، فإنه لم يذكر منافع إلا للدنيا .

حدثني محمد بن المثنى ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى قوله : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) قال : والأجل المسمى : الخروج منه إلى غيره .

وقال آخرون منهم : المنافع التي ذكرها الله في هذا الموضع : العمل لله بما أمر من مناسك الحج . قالوا : والأجل المسمى : هو انقضاء أيام الحج التي ينسك لله فيهن .

ذكر من قال ذلك : - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ) فقرأ قول الله : ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) لكم [ ص: 626 ] في تلك الشعائر منافع إلى أجل مسمى ، إذا ذهبت تلك الأيام لم تر أحدا يأتي عرفة يقف فيها يبتغي الأجر ، ولا المزدلفة ، ولا رمي الجمار ، وقد ضربوا من البلدان لهذه الأيام التي فيها المنافع ، وإنما منافعها إلى تلك الأيام ، وهي الأجل المسمى ، ثم محلها حين تنقضي تلك الأيام إلى البيت العتيق .

قال أبو جعفر : وقد دللنا قبل على أن قول الله تعالى ذكره : ( ومن يعظم شعائر الله ) معني به كل ما كان من عمل أو مكان جعله الله علما لمناسك حج خلقه ، إذ لم يخصص من ذلك جل ثناؤه شيئا في خبر ولا عقل . وإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن معنى قوله : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) في هذه الشعائر منافع إلى أجل مسمى ، فما كان من هذه الشعائر بدنا وهديا ، فمنافعها لكم من حين تملكون إلى أن أوجبتموها هدايا وبدنا ، وما كان منها أماكن ينسك لله عندها ، فمنافعها التجارة لله عندها والعمل بما أمر به إلى الشخوص عنها ، وما كان منها أوقاتا بأن يطاع الله فيها بعمل أعمال الحج وبطلب المعاش فيها بالتجارة ، إلى أن يطاف بالبيت في بعض ، أو يوافي الحرم في بعض ويخرج عن الحرم في بعض .

وقال اختلف الذين ذكرنا اختلافهم في تأويل قوله : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ) في تأويل قوله : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) فقال الذين قالوا عنى بالشعائر في هذا الموضع البدن معنى ذلك ثم محل البدن إلى أن تبلغ مكة ، وهي التي بها البيت العتيق .

ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) إلى مكة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) يعني محل البدن حين تسمى إلى البيت العتيق .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ( ثم محلها ) حين تسمى هديا ( إلى البيت العتيق ) ، قال : [ ص: 627 ] الكعبة أعتقها من الجبابرة . فوجه هؤلاء تأويل ذلك إلى سمى منحر البدن والهدايا التي أوجبتموها إلى أرض الحرم ، وقالوا : عنى بالبيت العتيق أرض الحرم كلها . وقالوا : وذلك قوله : ( فلا يقربوا المسجد الحرام ) والمراد : الحرم كله .

وقال آخرون : معنى ذلك : ثم محلكم أيها الناس من مناسك حجكم إلى البيت العتيق أن تطوفوا به يوم النحر بعد قضائكم ما أوجبه الله عليكم في حجكم .

ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند عن محمد بن أبي موسى : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) قال : محل هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت .

وقال آخرون : معنى ذلك : ثم محل منافع أيام الحج إلى البيت العتيق بانقضائها .

ذكر من قال ذلك : - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) حين تنقضي تلك الأيام ، أيام الحج إلى البيت العتيق .

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ثم محل الشعائر التي لكم فيها منافع إلى أجل مسمى إلى البيت العتيق ، فما كان من ذلك هديا أو بدنا فبموافاته الحرم في الحرم ، وما كان من نسك فالطواف بالبيت .

وقد بينا الصواب في ذلك من القول عندنا في معنى الشعائر .

التالي السابق


الخدمات العلمية