الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها

                                                                                                          حدثني يحيى عن مالك عن قطن بن وهب بن عمير بن الأجدع أن يحنس مولى الزبير بن العوام أخبره أنه كان جالسا عند عبد الله بن عمر في الفتنة فأتته مولاة له تسلم عليه فقالت إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن اشتد علينا الزمان فقال لها عبد الله بن عمر اقعدي لكع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة [ ص: 346 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 346 ] 2 - باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها

                                                                                                          1638 1590 - ( مالك عن قطن ) بفتح القاف والطاء المهملة ونون ( بن وهب بن عمير ) بضم العين مصغر ، وفي نسخة " عويمر " بواو بعد العين ( بن الأجدع ) بجيم ودال مهملة الليثي أو الخزاعي المدني الصدوق يكنى أبا الحسن ، وفي التمهيد قطن أحد بني سعد بن ليث مدني ثقة روى عنه مالك وغيره عنه هذا الحديث الواحد ( أن يحنس ) بضم التحتية وفتح الحاء المهملة وتشديد النون مفتوحة ومكسورة كما ضبطه عياض ، وآخره سين مهملة ، ، ابن عبد الله المدني الثقة ، قال أبو عمر : هكذا رواه يحيى وابن بكير وأكثر الرواة ، ورواه ابن القاسم عن مالك عن قطن بن وهب عن عويمر بن الأجدع أن يحنس والصحيح رواية الجماعة ، وكذا نسبه ابن البرقي ويشهد لصحته رواية القعنبي عن مالك عن قطن بن وهب أن يحنس ( مولى الزبير بن العوام ) أحد العشرة ، وفي رواية لمسلم : مولى مصعب بن الزبير ، قال النووي : وهو لأحدهما حقيقة وللآخر مجاز .

                                                                                                          ( أخبره أنه كان جالسا عند عبد الله بن عمر ) بن الخطاب ( في الفتنة ) التي وقعت زمن يزيد بن معاوية ( فأتته مولاة له ) لم تسم ( تسلم عليه فقالت : إني أردت الخروج ) من المدينة ( يا أبا عبد الرحمن ) لأنه ( اشتد ) قوي وصعب ( علينا الزمان ، فقال لها عبد الله بن عمر : اقعدي لكع ) بضم اللام وفتح الكاف وعين مهملة كذا ليحيى وحده والصواب لكاع كما رواه غيره ، قال أبو عمر : إنما يقال للمرأة لكاع مثل جذام وقطام ، وقال عياض : يطلق لكع بضم اللام وفتح الكاف على اللئيم والعبد والغبي الذي لا يهتدي لنطق ولا غيره وعلى الصغير ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - يطلب الحسن أثم لكع .

                                                                                                          وقول الحسن لإنسان : يا لكع أي يا صغير العلم .

                                                                                                          ويقال للمرأة لكاع على وزن فعال ، والجميع من اللكع وهو اللؤم ، وقيل من الملاكيع وهو ما يخرج من السلا من البطن .

                                                                                                          وقال النحاة : لكع ولكاع لا يستعملان إلا في النداء خاصة ، قد استعمل لكاع في [ ص: 347 ] الشعر في غير النداء ، قال الحطيئة :


                                                                                                          أطوف ما أطوف ثم آوي إلى بيت قعيدته لكاع



                                                                                                          قال ذلك ابن عمر لها إنكارا لما أرادته من الخروج وتثبيطا لها وإدلالا عليها لأنها مولاته ، وقد يكون معناه يا قليلة العلم وصغيرة الحظ منه ؛ لما فاتها من معرفة حق المدينة .

                                                                                                          ( فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يصبر على لأوائها ) بالمد ( وشدتها ) قال أبو عمر : يعني المدينة ، والشدة الجوع ، واللأواء تعذر الكسب وسوء الحال .

                                                                                                          وقال المازري : اللأواء الجوع وشدة المكسب ، وضمير شدتها يحتمل أن يعود على اللأواء ، ويحتمل أن يعود على المدينة ، قال الأبي : الحديث خرج مخرج الحث على سكناها فمن لزم سكناها داخل في ذلك ولو لم تلحقه لأواء لأن التعليل بالغالب والمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور كتعليل القصر بمشقة السفر ، فإن الملك يقصر وإن لم تلحقه مشقة لوجود السفر ( أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة ) قال عياض : سئلت قديما عن هذا الحديث ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته - صلى الله عليه وسلم - وادخاره إياها ؟ وأجيب عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه ، وأذكر منه هنا لمعا تليق بهذا الموضع ، قال بعض شيوخنا " أو " هنا للشك والأظهر عندنا أنها ليست للشك ; لأن هذا الحديث رواه جابر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك ويطابقهم فيه على صيغة واحدة ، بل الأظهر أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله هكذا ، فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا ، وإما أن تكون " أو " للتقسيم ويكون شهيدا لبعض أهل المدينة وشفيعا لباقيهم ، إما شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين ، وإما شهيدا لمن مات في حياته وشفيعا لمن مات بعده أو غير ذلك ، وهذه خصوصية رائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاصين في القيامة ، وعلى شهادته على جميع الأمة ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد : " أنا شهيد على هؤلاء " فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة ، قال : وقد تكون " أو " بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعا وشهيدا انتهى .

                                                                                                          وبالواو رواه البزار من حديث ابن عمر ، قال عياض : وإذا جعلنا " أو " للشك كما قال المشايخ فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدا اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة المجردة لغيرهم ، وإن كانت شفيعا فاختصاص أهل المدينة بهذا أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي في إخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم بشفاعته في القيامة ، وتكون هذه الشفاعة بزيادة الدرجات أو تخفيف السيئات أو بما شاء الله من ذلك ، [ ص: 348 ] أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح أو على منابر ، أو الإسراع بهم إلى الجنة ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض انتهى .

                                                                                                          ونقله عنه النووي وغيره وأقروه ، والحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به وتابعه الضحاك عن قطن عند مسلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية