الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان من يستحق القصاص فنقول - ولا قوة إلا بالله - : المقتول لا يخلو إما أن يكون حرا ، وإما أن يكون عبدا ، فإن كان حرا لا يخلو إما أن يكون له وارث ، وإما أن لم يكن ، فإن كان له وارث فالمستحق للقصاص هو الوارث كالمستحق للمال ; لأنه حق ثابت ، والوارث أقرب الناس إلى الميت فيكون له ، ثم إن كان الوارث واحدا استحقه ، وإن كان جماعة استحقوه على سبيل الشركة كالمال الموروث عنه وجه قولهما في تمهيد هذا الأصل أن القصاص موجب الجناية ، وأنها وردت على المقتول فكان موجبها حقا له إلا أنه بالموت عجز عن الاستيفاء بنفسه فتقوم الورثة مقامه بطريق الإرث عنه ، ويكون مشتركا بينهم ، ولهذا تجري فيه سهام الورثة من النصف ، والثلث ، والسدس ، وغير ذلك ، كما تجري في المال وهذا آية الشركة ، ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن المقصود من القصاص هو التشفي ، وأنه لا يحصل للميت ، ويحصل للورثة فكان حقا لهم ابتداء ، والدليل على أنه يثبت لكل واحد منهم على الكمال كأن ليس معه غيره لا على سبيل الشركة أنه حق لا يتجزأ ، والشركة فيما لا يتجزأ محال ، إذ الشركة المعقولة هي أن يكون البعض لهذا ، والبعض لذلك ، كشريك الأرض والدار ، وذلك فيما لا يتبعض محال .

                                                                                                                                والأصل أن ما لا يتجزأ من الحقوق إذا ثبت لجماعة ، وقد وجد سبب ثبوته في حق كل واحد منهم يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال كأن ليس معه غيره كولاية الإنكاح ، وولاية الأمان ، وعلى هذا يخرج ما إذا قتل إنسان عمدا ، وله وليان أحدهما غائب فأقام الحاضر البينة على القتل ، ثم حضر الغائب أنه يعيد البينة عنده ، وعندهما لا يعيد ، ولا خلاف في أن القتل إذا كان خطأ لا يعيد ، وكذلك الدين بأن كان لأبيهما دين على إنسان ، ووجه البناء على هذا الأصل أن عند أبي حنيفة لما كان القصاص حقا ثابتا للورثة ابتداء كان كل واحد منهما أجنبيا عن صاحبه ، فيقع إثبات البينة له لا للميت ، فلا يكون خصما عن الميت في الإثبات فتقع الحاجة إلى إعادة البينة ، ولما كان حقا موروثا على فرائض الله تبارك وتعالى عندهما ، والورثة خلفاؤه في استيفاء الحق يقع الإثبات للميت ، وكل واحد من آحاد الورثة خصم عن الميت في حقوقه كما في الدية والدين ، فيصح منه إثبات الكل للميت ثم يخلفونه كما في المال .

                                                                                                                                ولو قتل إنسان ، وله وليان وأحدهما غائب ، وأقام القاتل البينة على الحاضر أن الغائب قد عفا فالشاهد خصم ; لأن تحقق العفو من الغائب يوجب بطلان حق الحاضر عن القصاص ، فكان القاتل مدعيا على الحاضر بطلان حقه فكان خصما له ، ويقضي عليه ، ومتى قضى عليه يصير الغائب مقضيا عليه تبعا له - والله تعالى أعلم - ، وإن لم يكن للقاتل بينة لم يكن له أن يستحلف الحاضر ; لأن الإنسان قد ينتصب خصما عن غيره في إقامة البينة ، أما لا ينتصب خصما عن غيره في اليمين ، وعلى هذا يخرج القصاص إذا كان بين صغير وكبير أن للكبير ولاية الاستيفاء عنده ، وعندهما ليس له ذلك ، وينتظر بلوغ الصغير ، ووجه البناء أن عند أبي حنيفة - رحمه الله - لما كان القصاص حقا ثابتا للورثة ابتداء لكل واحد منهم على سبيل الاستقلال لاستقلال سبب ثبوته في حق كل واحد منهم ، وعدم تجزئه في نفسه ثبت لكل واحد منهم على الكمال كأن ليس معه غيره ، فلا معنى لتوقف الاستيفاء على بلوغ الصغير .

                                                                                                                                وعندهما لما كان حقا مشتركا بين الكل فأحد الشريكين لا ينفرد بالتصرف في محل مشترك بدون رضا شريكه إظهارا لعصمة المحل ، وتحرزا عن الضرر ، والصحيح أصل أبي حنيفة [ ص: 243 ] رضي الله عنه لما ذكرنا أن القصاص لا يحتمل التجزئة ، والشركة في غير المتجزئ محال ، وإنما تثبت الشركة إذا انقلب مالا ; لأن المال محل قابل للشركة على أن أبا حنيفة إن سلم أن القصاص مشترك بين الصغير والكبير فلا بأس بالتسليم ; لأنه يمكن القتل بثبوت ولاية الاستيفاء للكبير في نصيبه بطرق الأصالة ، وفي نصيب الصغير بطريق النيابة شرعا ، كالقصاص إذا كان بين إنسان وابنه الصغير ، والجامع بينهما حاجتهما إلى استيفاء القصاص لاستيفاء النفس ، وعجز الصغير عن الاستيفاء بنفسه ، وقدرة الكبير على ذلك ، وكون تصرفه في النظر ، والشفقة في حق الصغير مثل تصرف الصغير بنفسه لو كان أهلا ; ولهذا يلي الأب والجد استيفاء قصاص وجب كله للصغير فهذا أولى ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي أنه لما جرح ابن ملجم - لعنه الله - سيدنا عليا كرم الله تعالى وجهه فقال للحسن رضي الله عنه : إن شئت فاقتله ، وإن شئت فاعف عنه وأن تعفو خير لك ، فقتله سيدنا الحسن رضي الله عنه ، وكان في ورثة سيدنا علي رضي الله عنه صغار ، والاستدلال من وجهين : أحدهما بقول سيدنا علي رضي الله عنه والثاني بفعل سيدنا الحسن رضي الله عنه ( أما ) الأول فلأنه خير سيدنا الحسن رضي الله عنه حيث قال : " إن شئت فاقتله " مطلقا من غير التقييد ببلوغ الصغار .

                                                                                                                                ( وأما ) الثاني : فلأن الحسن رضي الله عنه قتل ابن ملجم - لعنه الله - ولم ينتظر بلوغ الصغار ، وكل ذلك بمحضر من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر عليهما أحد فيكون إجماعا ، وإن لم يكن له وارث ، وكان له مولى العتاقة ، وهو المعتق فالمستحق للقصاص هو ; لأن مولى العتاقة آخر العصبات ثم إن كان واحدا استحق كله ، وإن كانوا جماعة استحقوه ، وإن كان للمقتول وارث ، ومولى العتاقة أيضا فلا قصاص ; لأن الولي مشتبه لاشتباه سبب الولاية ، فالسبب في حق الوارث هو القرابة ، وفي حق المولى الولاء ، وهما سببان مختلفان ، واشتباه الولي يمنع الوجوب للقصاص ، وكذلك إن لم يكن له مولى العتاقة ، وله مولى الموالاة ; لأنه آخر الورثة فجاز أن يستحق القصاص كما يستحق المال ، وإن لم يكن له وارث ، ولا له مولى العتاقة ، ولا مولى الموالاة كاللقيط وغيره فالمستحق هو السلطان في قولهما ، وقال أبو يوسف - رحمه الله - لا يستحقه إذا كان المقتول في دار الإسلام ، والحجج تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى ، وإن كان المقتول عبدا فالمستحق هو المولى لأن الحق قد ثبت ، وأقرب الناس إلى العبد مولاه ثم إن كان المولى ، واحدا استحق كله ، وإن كان جماعة استحقوه لوجود سبب الاستحقاق في حق الكل ، وهو الملك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية