الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ( 45 ) )

يقول تعالى ذكره : وكم يا محمد من قرية أهلكت أهلها وهم ظالمون; يقول : وهم يعبدون غير من ينبغي أن يعبد ، ويعصون من لا ينبغي لهم أن يعصوه . وقوله : ( فهي خاوية على عروشها ) يقول : فباد أهلها وخلت ، وخوت من سكانها ، فخربت وتداعت ، وتساقطت على عروشها; يعني على بنائها وسقوفها .

كما : حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك : ( فهي خاوية على عروشها ) قال : خواؤها : خرابها ، وعروشها : سقوفها .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( خاوية ) قال : خربة ليس فيها أحد .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة . مثله .

وقوله : ( وبئر معطلة ) يقول تعالى : فكأين من قرية أهلكناها ، ومن بئر عطلناها ، بإفناء أهلها وهلاك وارديها ، فاندفنت وتعطلت ، فلا واردة لها ولا [ ص: 654 ] شاربة منها ( و ) من ( وقصر مشيد ) رفيع بالصخور والجص ، قد خلا من سكانه ، بما أذقنا أهله من عذابنا بسوء فعالهم ، فبادوا وبقي قصورهم المشيدة خالية منهم . والبئر والقصر مخفوضان بالعطف على القرية . كان بعض نحويي الكوفة يقول : هما معطوفان على العروش بالعطف عليها خفضا ، وإن لم يحسن فيهما ، على أن العروش أعالي البيوت ، والبئر في الأرض ، وكذلك القصر ، لأن القرية لم تخو على القصر ، ولكنه أتبع بعضه بعضا كما قال : ( وحور عين كأمثال اللؤلؤ ) فمعنى الكلام على ما قال هذا الذي ذكرنا قوله في ذلك : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة ، فهي خاوية على عروشها ، ولها بئر معطلة وقصر مشيد; ولكن لما لم يكن مع البئر رافع ولا عامل فيها ، أتبعها في الإعراب العروش ، والمعنى ما وصفت .

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( وبئر معطلة ) قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : ( وبئر معطلة ) قال : التي قد تركت . وقال غيره : لا أهل لها .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وبئر معطلة ) قال : عطلها أهلها ، تركوها .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وبئر معطلة ) قال : لا أهل لها .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( وقصر مشيد ) فقال بعضهم : معناه : وقصر مجصص .

ذكر من قال ذلك : - حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : ثنا سفيان ، عن هلال بن خباب عن عكرمة ، في قوله : ( وقصر مشيد ) قال : مجصص .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن هلال بن [ ص: 655 ] خباب ، عن عكرمة مثله .

حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثني غالب بن فائد ، قال : ثنا سفيان ، عن هلال بن خباب عن عكرمة مثله .

حدثني الحسين بن محمد العنقزي ، قال : ثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي عن عكرمة ، في قوله : ( وقصر مشيد ) قال : مجصص .

حدثني مطر بن محمد قال : ثنا كثير بن هشام . قال . حدثنا جعفر بن برقان ، قال : كنت أمشي مع عكرمة ، فرأى حائط آجر مصهرج ، فوضع يده عليه وقال : هذا المشيد الذي قال الله .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عباد بن العوام ، عن هلال بن خباب ، عن عكرمة : ( وقصر مشيد ) قال : المجصص . قال عكرمة : والجص بالمدينة يسمى الشيد .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وقصر مشيد ) قال : بالقصة أو الفضة .

حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وقصر مشيد ) قال : بالقصة يعني بالجص .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .

حدثنا الحسن ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء في قوله : ( وقصر مشيد ) قال : مجصص .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن هلال بن خباب ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( وقصر مشيد ) قال : مجصص ، هكذا هو في كتابي عن سعيد بن جبير .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقصر رفيع طويل . [ ص: 656 ] ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وقصر مشيد ) قال : كان أهله شيدوه وحصنوه ، فهلكوا وتركوه .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة مثله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وقصر مشيد ) يقول : طويل .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بالمشيد المجصص ، وذلك أن الشيد في كلام العرب هو الجص بعينه; ومنه قول الراجز :


كحبة الماء بين الطي والشيد



فالمشيد : إنما هو مفعول من الشيد; ومنه قول امرئ القيس :


وتيماء لم يترك بها جذع نخلة     ولا أطما إلا مشيدا بجندل

[ ص: 657 ] يعني بذلك : إلا بالبناء بالشيد والجندل . وقد يجوز أن يكون معنيا بالمشيد المرفوع بناؤه بالشيد ، فيكون الذين قالوا : عنى بالمشيد الطويل نحوا بذلك إلى هذا التأويل; ومنه قول عدي بن زيد :


شاده مرمرا وجلله كلسا     فللطير في ذراه وكور



وقد تأوله بعض أهل العلم بلغات العرب بمعنى المزين بالشيد من شدته أشيده . إذا زينته به ، وذلك شبيه بمعنى من قال : مجصص .

التالي السابق


الخدمات العلمية