الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ( 47 ) )

يقول تعالى ذكره : ويستعجلونك يا محمد مشركو قومك بما تعدهم من عذاب الله على شركهم به وتكذيبهم إياك فيما أتيتهم به من عند الله في الدنيا ، ولن يخلف الله وعده الذي وعدك فيهم من إحلال عذابه ونقمته بهم في عاجل الدنيا . ففعل ذلك ، ووفى لهم بما وعدهم ، فقتلهم يوم بدر .

واختلف أهل التأويل في اليوم الذي قال جل ثناؤه : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) أي يوم هو ؟ فقال بعضهم : هو من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض .

ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) قال : من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : ( وإن يوما عند ربك ) . . . الآية ، قال : هي مثل قوله في " الم تنزيل " سواء ، هو هو الآية .

وقال آخرون : بل هو من أيام الآخرة .

ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : مقدار الحساب يوم القيامة ألف [ ص: 659 ] سنة

حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية قال : ثنا سعيد الجريري ، عن أبي نضرة عن سمير بن نهار ، قال : قال أبو هريرة : يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم . قلت : وما نصف يوم ؟ قال : أوما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى . قال : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثني عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة ) قال : من أيام الآخرة .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة ، أنه قال في هذه الآية : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) قال : هذه أيام الآخرة . وفي قوله : ( ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) قال : يوم القيامة ، وقرأ : ( إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ) .

وقد اختلف في وجه صرف الكلام من الخبر عن استعجال الذين استعجلوا العذاب إلى الخبر عن طول اليوم عند الله ، فقال بعضهم : إن القوم استعجلوا العذاب في الدنيا ، فأنزل الله : ( ولن يخلف الله وعده ) في أن ينزل ما وعدهم من العذاب في الدنيا . وإن يوما عند ربك من عذابهم في الدنيا والآخرة كألف سنة مما تعدون في الدنيا .

وقال آخرون : قيل ذلك كذلك إعلاما من الله مستعجليه العذاب أنه لا يعجل ، ولكنه يمهل إلى أجل أجله ، وأن البطيء عندهم قريب عنده ، فقال لهم : مقدار اليوم عندي ألف سنة مما تعدون أنتم أيها القوم من أيامكم ، وهو عندكم بطيء وهو عندي قريب .

وقال آخرون : معنى ذلك : وإن يوما من الثقل وما يخاف كألف سنة .

والقول الثاني عندي أشبه بالحق في ذلك; وذلك إن الله تعالى ذكره أخبر عن استعجال المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب ، ثم أخبر عن مبلغ قدر اليوم عنده ، ثم أتبع ذلك قوله : ( وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ) فأخبر عن إملائه أهل القرية الظالمة تركه معاجلتهم بالعذاب ، فبين بذلك أنه عنى بقوله : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) نفى العجلة عن نفسه ، [ ص: 660 ] ووصفها بالأناة والانتظار ، وإذ كان ذلك كذلك ، كان تأويل الكلام : وإن يوما من الأيام التي عند الله يوم القيامة يوم واحد كألف سنة من عددكم ، وليس ذلك عنده ببعيد ، وهو عندكم بعيد ، فلذلك لا يعجل بعقوبة من أراد عقوبته حتى يبلغ غاية مدته .

التالي السابق


الخدمات العلمية