الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان ما يسقط القصاص بعد وجوبه فالمسقط له أنواع : منها فوات محل القصاص بأن مات من عليه القصاص بآفة سماوية ; لأنه لا يتصور بقاء الشيء في غير محله ، وإذا سقط القصاص بالموت لا تجب الدية عندنا ; لأن القصاص هو الواجب عينا عندنا ، وهو أحد قولي الشافعي - رحمه الله - ، وعلى قوله الآخر تجب الدية ، وقد بينا فساده فيما تقدم ، وكذا إذا قتل من عليه القصاص بغير حق أو بحق بالردة والقصاص بأن قتل إنسانا فقتل به قصاصا يسقط القصاص ، ولا يجب لما قلنا ، وكذلك القصاص الواجب فيما دون النفس إذا فات ذلك العضو بآفة سماوية أو قطع بغير حق يسقط القصاص من غير مال عندنا لما قلنا ، وإن قطع بحق بأن قطع يد غيره فقطع به أو سرق مال إنسان فقطع يسقط القصاص أيضا لفوات محله ، لكن يجب أرش اليد فيقع الفرق في موضعين أحدهما بين القتل والقطع بحق .

                                                                                                                                والثاني بين القطع بغير حق ، وبين القطع بحق ، والفرق أنه إذا قطع طرفه بحق فقد قضى به حقا واجبا عليه فجعل كالقائم ، وجعل صاحبه ممسكا له تقديرا كأنه أمسكه حقيقة ، وتعذر استيفاء القصاص لعذر الخطأ ، ونحو ذلك ، وهناك يجب الأرش ، كذا هذا ، وهذا المعنى لم يوجد فيما إذا قطع بغير حق ; لأنه لم يقض حقا واجبا عليه ، وفي القتل إن قضى حقا واجبا عليه ، لكن لا يملك أن يجعل ممسكا للنفس بعد موته تقديرا ; لأنه لا يتصور حقيقة بخلاف الطرف ، والله تعالى أعلم ومنها العفو ، والكلام فيه في ثلاثة مواضع : أحدها : في بيان ركنه ، والثاني : في بيان شرائط الركن ، والثالث : في بيان حكمه أما ركنه فهو أن يقول العافي عفوت أو أسقطت أو أبرأت أو وهبت ، وما يجري هذا المجرى .

                                                                                                                                وأما الشرائط فمنها أن يكون العفو من صاحب الحق ; لأنه إسقاط الحق ، وإسقاط الحق ولا حق محال فلا يصح العفو من الأجنبي لعدم الحق ، ولا من الأب ، والجد في قصاص وجب للصغير ; لأن الحق للصغير لا لهما ، وإنما لهما ولاية استيفاء حق وجب للصغير ، ولأن ولايتهما مقيدة بالنظر للصغير ، والعفو ضرر محض ; لأنه إسقاط الحق أصلا ، ورأسا فلا يملكانه ، ولهذا لا يملكه السلطان فيما له ولاية الاستيفاء على ما بينا ، والله تعالى أعلم ومنها أن يكون العافي عاقلا .

                                                                                                                                ( ومنها ) أن يكون بالغا ، فلا يصح العفو من الصبي ، والمجنون ، وإن كان الحق ثابتا لهما ; لأنه من التصرفات المضرة المحضة فلا يملكانه كالطلاق ، والعتاق ، ونحو ذلك ( وأما ) حكم العفو فالعفو في الأصل لا يخلو إما أن يكون من الولي ، وإما أن يكون من المجروح ، فإن كان من الولي لا يخلو من أن يكون منه بعد الموت أو قبل الموت بعد الجرح ، فإن كان بعد الموت فإما أن يكون الولي واحدا ، وإما أن يكون أكثر ، فإن كان واحدا بأن كان القاتل [ ص: 247 ] والمقتول واحدا فعفا عن القاتل سقط القصاص ; لأن استيفاءه لتحقق معنى الحياة ، وهذا المعنى يحصل بدون الاستيفاء بالعفو ; لأنه إذا عفا فالظاهر أنه لا يطلب الثأر بعد العفو ، فلا يقصد قتل القاتل فلا يقصد القاتل قتله فيحصل معنى الحياة بدون الاستيفاء ، فيسقط القصاص لحصول ما شرع له استيفاؤه بدونه ، وهكذا قال الحسن - رحمه الله - في تأويل قوله تعالى { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } أي من أحياها بالعفو ، وقيل في قوله تبارك وتعالى { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } أن ذلك العفو والصلح على ما قيل أن حكم التوراة القتل لا غير ، وحكم الإنجيل العفو بغير بدل لا غير ، فخفف سبحانه وتعالى على هذه الأمة فشرع العفو بلا بدل أصلا ، والصلح ببدل سواء عفا عن الكل أو عن البعض ; لأن القصاص لا يتجزأ وذكر البعض فيما لا يتبعض ذكر الكل كالطلاق ، وتسليم الشفعة ، وغيرهما ، وإذا سقط القصاص بالعفو لا ينقلب مالا عندنا ; لأن حق الولي في القصاص عينا ، وهو أحد قولي الشافعي - رحمه الله - ، وقد أسقطه لا إلى بدل ، ومن له الحق إذا أسقط حقه مطلقا ، وهو من أهل الإسقاط ، والمحل قابل للسقوط يسقط مطلقا كالإبراء عن الدين ، ونحو ذلك .

                                                                                                                                وعلى قوله الآخر الواجب أحدهما ، فإذا عفا عن القصاص انصرف الواجب تصحيحا لتصرفه كمن له على آخر دراهم أو دنانير ، ولا ينوي أحدهما بعينه ، فأبرأه المديون عن أحدهما ، ليس له أن يطالبه بالآخر لما قلنا ، كذا هذا ، ولو عفا عنه ثم قتله بعد العفو يجب عليه القصاص عند عامة العلماء رضي الله عنهم .

                                                                                                                                وقال بعض الناس : لا يجب ، واحتجوا بقوله تبارك وتعالى { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } جعل جزاء المعتدي ، وهو القاتل بعد العفو العذاب الأليم ، وهو عذاب الآخرة - نستجير بالله سبحانه وتعالى من هوله - فلو وجب القصاص في الدنيا لصار المذكور بعض الجزاء ، ولأن القصاص في الدنيا يرفع عذاب الآخرة لقوله عليه الصلاة والسلام { السيف محاء للذنوب } ، وفيه نسخ الآية الشريفة .

                                                                                                                                ( ولنا ) عمومات القصاص من غير فصل بين شخص وشخص ، وحال وحال ، إلا شخصا أو حالا قيد بدليل ، وكذا الحكمة التي لها شرع القصاص ، وهو الحياة على ما بينا يقتضي الوجوب .

                                                                                                                                وأما الآية فقد قيل في بعض وجوه التأويل : إن العذاب الأليم ههنا هو القصاص فإن القتل غاية العذاب الدنيوي في الإيلام فعلى هذا التأويل كانت الآية حجة عليهم ، وتحتمل هذا وتحتمل ما قالوا فلا تكون حجة مع الاحتمال ، وإن كان القصاص أكثر بأن قتل رجلان واحدا ، فإن عفا عنهما سقط القصاص أصلا ; لما ذكرنا ، وإن عفا عن أحدهما سقط القصاص عنه ، وله أن يقتل الآخر لأنه استحق على كل واحد منهما قصاصا كاملا ، والعفو عن أحدهما لا يوجب العفو عن الآخر ، وذكر في المنتقى عن أبي يوسف - رحمه الله - أنه يسقط القصاص عنهما ; لأن طريق إيجاب القصاص عليهما أن يجعل كل واحد منهما قاتلا على الانفراد كأن ليس معه غيره ، إذ القتل تفويت الحياة ، ولا يتصور تفويت حياة واحدة من كل واحد منهما على الكمال فيجعل كل واحد منهما قاتلا على الانفراد ، ويجعل قتل صاحبه عدما في حقه ، فإذا عفا عن أحدهما ، والعفو عن القاتل جعل فعل الآخر عدما تقديرا فيورث شبهة ، والقصاص لا يستوفى مع الشبهة .

                                                                                                                                وهذا ليس بسديد ; لأن طريق إيجاب القصاص عليهما ليس ما ذكر ، وليس القتل اسما لتفويت الحياة بل هو اسم لفعل مؤثر في فوات الحياة عادة ، وهذا حصل لكل واحد منهما على الكمال ، فالعفو عن أحدهما لا يؤثر في الآخر ، هذا إذا كان الولي واحدا ، فأما إذا كان اثنين أو أكثر فعفا أحدهما سقط القصاص عن القاتل ; لأنه سقط نصيب العافي بالعفو فيسقط نصيب الآخر ضرورة أنه لا يتجزأ إذ القصاص قصاص واحد فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض ، وينقلب نصيب الآخر مالا بإجماع الصحابة الكرام - رضي الله تعالى عنهم - فإنه روي عن عمر ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر أحد عليهم فيكون إجماعا ، وقيل : إن قوله تبارك وتعالى { فمن عفي له من أخيه شيء } نزلت في دم بين شركاء يعفو أحدهم عن القاتل فللآخرين أن يتبعوه بالمعروف في نصيبهم ; لأنه قال سبحانه ، وتعالى { فمن عفي له من أخيه شيء } ، وهذا العفو عن بعض الحق ، ويكون نصيب الآخر ، وهو [ ص: 248 ] نصف الدية في مال القاتل ; لأن القتل عمد إلا أنه تعذر استيفاء القصاص لما ذكرنا ، والعاقلة لا تعقل العمد ، ويؤخذ منه في ثلاث سنين عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر في سنتين .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الواجب نصف الدية فيؤخذ في سنتين كما لو قطع يد إنسان خطأ ، ووجب عليه نصف الدية ، أنه يؤخذ في سنتين ، كذا ههنا .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن الواجب جزء مما يؤخذ في ثلاث سنين ، وحكم الجزء حكم الكل بخلاف القطع فإن الواجب هناك كل لا جزء ; لأن كل دية يد واحدة هذا القدر ، إلا أنه قدر كل ديتها بنصف دية النفس ، وهذا لا ينفي أن يكون كل دية الطرف .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية