الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ( 55 ) )

يقول تعالى ذكره : ولا يزال الذين كفروا بالله في شك .

ثم اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله : " منه " من ذكر ما هي ؟ فقال بعضهم : هي من ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى .

ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا محمد ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير : ( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ) [ ص: 671 ] من قوله : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن ترتجى .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ) قال : مما جاء به إبليس لا يخرج من قلوبهم زادهم ضلالة .

وقال آخرون : بل هي من ذكر سجود النبي صلى الله عليه وسلم في النجم .

ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الصمد ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : ( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ) قال : في مرية من سجودك .

وقال آخرون : بل هي من ذكر القرآن .

ذكر من قال ذلك : - حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : ( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ) قال : من القرآن .

وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته وذلك أن ذلك من ذكر قوله : ( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ) أقرب منه من ذكر قوله : ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) والهاء من قوله " أنه " من ذكر القرآن ، فإلحاق الهاء في قوله : ( في مرية منه ) بالهاء من قوله : ( أنه الحق من ربك ) أولى من إلحاقها بما التي في قوله ( ما يلقي الشيطان ) مع بعد ما بينهما .

وقوله : ( حتى تأتيهم الساعة ) يقول : لا يزال هؤلاء الكفار في شك من أمر هذا القرآن إلى أن تأتيهم الساعة ( بغتة ) وهي ساعة حشر الناس لموقف الحساب بغتة ، يقول : فجأة .

واختلف أهل التأويل في هذا اليوم أي يوم هو ؟ فقال بعضهم : هو يوم القيامة .

ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم ، قال : ثنا شيخ من أهل خراسان من الأزد يكنى أبا ساسان ، قال : سألت الضحاك ، عن قوله : ( عذاب يوم عقيم ) قال : عذاب يوم لا ليلة بعده .

[ ص: 672 ] حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عكرمة أن يوم القيامة لا ليلة له .

وقال آخرون : بل عنى به يوم بدر . وقالوا : إنما قيل له يوم عقيم ، أنهم لم ينظروا إلى الليل ، فكان لهم عقيما .

ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية عن ليث ، عن مجاهد ، قال : ( عذاب يوم عقيم ) يوم بدر .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : ( أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ) قال ابن جريج : يوم ليس فيه ليلة ، لم يناظروا إلى الليل . قال مجاهد : عذاب يوم عظيم .

قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، قال : قال مجاهد : يوم بدر .

حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو إدريس ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( عذاب يوم عقيم ) قال : يوم بدر .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قوله : ( عذاب يوم عقيم ) قال : هو يوم بدر . ذكره عن أبي بن كعب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( عذاب يوم عقيم ) قال : هو يوم بدر . عن أبي بن كعب .

وهذا القول الثاني أولى بتأويل الآية ، لأنه لا وجه لأن يقال : لا يزالون في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة ، أو تأتيهم الساعة; وذلك أن الساعة هي يوم القيامة ، فإن كان اليوم العقيم أيضا هو يوم القيامة فإنما معناه ما قلنا من تكرير ذكر الساعة مرتين باختلاف الألفاظ ، وذلك ما لا معنى له . فإذ كان ذلك كذلك ، فأولى التأويلين به أصحهما معنى وأشبههما بالمعروف في الخطاب ، وهو ما ذكرنا في معناه .

فتأويل الكلام إذن : ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ، حتى تأتيهم الساعة بغتة فيصيروا إلى العذاب العقيم ، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم له ، فلا [ ص: 673 ] ينظرون فيه إلى الليل ولا يؤخروا فيه إلى المساء ، لكنهم يقتلون قبل المساء .

التالي السابق


الخدمات العلمية