الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

إذا تبين هذا فنقول: الجواب عن احتجاج الجهمي من وجوه:

أحدها: أن يقال: لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد توجيه ظهر الكف دون بطنه إلى السماء في شيء من الدعاء، وقد تقدم بيان معنى [ ص: 99 ] حديث أنس وأنه لشدة الرفع انحنت يده.

الوجه الثاني: أن يقال: لو جاء حديث واحد صحيح صريح بأنه قصد رفع ظهر كفيه إلى السماء لكانت الأحاديث التي هي أكثر منه وأشهر معارضة له في ذلك، فإن أمكن الجمع بينهما وإلا كان الأكثر الأشهر أولى بالتقديم عند التعارض.

الوجه الثالث: أن يقال: هب أنه قصد رفع كفيه إلى السماء وتوجيه باطن يديه إلى الأرض، فهذا لا يدل على نفي علو الله سبحانه وتعالى، فإن الناس كلهم متفقون على أن الله ليس في الأرض دون السماء، فلا يجوز أن يقال: قصد توجيه بطن يده إلى الله، ولم يقل هذا أحد من الخلائق.

الوجه الرابع: أن يقال: غاية ما في هذا أنه لم يقصد رفع يده إلى السماء، ولا ريب أن رفع اليدين إلى السماء في الدعاء ليس واجبا، فغاية هذا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه إلى السماء في الدعاء، وهذا لا يدل على أن الله ليس في العلو.

الوجه الخامس: أن هذا غاية ما فيه أنه يبطل استدلال من يستدل برفع اليد على أن الله في العلو، فيقول المعارض: رفع اليد إلى السماء لا يدل على أنه رفعها إلى الله، كما أن جعل الكف إلى السماء لا يدل على أن بطن اليد إلى الله، فغاية ما يقول المعترض أن رفع اليد لا يبقى فيه دلالة على العلو، ومعلوم أن انتفاء الدليل المعين لا ينفي الحكم. [ ص: 100 ]

الوجه السادس: أنه لا يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بذلك تعريف أمته أن الله ليس في العلو، فإن هذا الفعل ليس ظاهرا في هذا المقصود، ولهذا لم يستدل أحد من الجهمية بذلك. والله قد أمر نبيه بالبلاغ المبين، فكيف يترك البيان الذي جعل عليه إلى ما لا بيان فيه؟ كيف والقرآن والأحاديث مملوء من البيان الدال على أن الله في العلو؟ فكيف يجوز أن يقال: إنه قصد أن يعرفهم نفي العلو بمثل هذا العلو الذي لا يدل؟ ولا يقال: إنه قصد تعريفهم العلو بتلك الدلالات البينة الواضحة الكثيرة المتواترة؟ هذا مما يعلم بالاضطرار أنه من نسب الرسول إليه فهو من أكذب الخلق عليه، وهو في هذا المقام من حبالة أهل السفسطة والقرمطة المبطلين للعقليات والسمعيات.

الوجه السابع: أن يقال: لا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء تارة كان يشير بإصبعه، كما ثبت مثل ذلك في الصلاة والخطبة، وأنه كان يدعو بباطن يديه كما جاء في أحاديث متعددة، وقد كان يدعو أحيانا بلا إشارة ولا رفع، فيقال: إذا كان بعض هذه الأفعال دالا على علو الله تعالى وقد فعله بعض الأوقات حصل المقصود، وليس ترك الدلالة في بعض الأوقات نافيا للمدلول بوجود الرفع دليل العلو، وعدمه لا ينافيه، فلا يضر إذا كان في بعض الأدعية لم يرفع بطن يديه إلى السماء، إذ قد علم أنه لم يقصد هنالك توجيه بطن يديه إلى غير الله.

الوجه الثامن: أنه قد جاء مصرحا بأن الإشارة والرفع إلى الله تعالى، [ ص: 101 ] كما تقدم من حديث سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراوين".

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها، ويده اليسرى على ركبتيه باسطها. وفي لفظ: كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثا وخمسين، وأشار بالسبابة. وفي لفظ: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، فقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى.

وكذلك في صحيح مسلم حديث عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته.

وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر الطويل في صفة [ ص: 102 ] حجة الوداع -وهو أتم حديث جاء في صفة حجته- قال: حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس فقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فصلبه هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات. ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر.

فهو هنا يدعو ربه ويناجيه، مشيرا بإصبعه إلى السماء، ثم ينكتها إليهم يقول: اللهم اشهد أني على ما قالوا. ومن رأى هذا الفعل منه وسمع هذا الكلام منه على هذا الوجه علم ضرورة أنه أشار بإصبعه إلى الله أن يشهد على أمته بإقرارهم بالبلاغ. ولو كان يكابر وقال: هذا لا يدل، فلا ينازع في أنه ظاهر في ذلك، ولو نازع في الظهور لم ينازع في أن دلالة هذا وأمثاله على علو الله أبين [ ص: 103 ] من دلالة ترك رفع اليدين أو ترك رفع بطونهما على عدم علوه، فإن ذلك لا يدل بوجه من الوجوه، فمن ترك هذه الدلالات المحكمات وتمسك بالمتشابهات كان من الذين في قلوبهم زيغ. [ ص: 104 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية