الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 573 ] غزوة بدر الآخرة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهي بدر الموعد ، التي تواعدوا إليها من أحد كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبا ، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان . قال ابن هشام : واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول . قال ابن إسحاق : فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأقام عليه ثمانيا ينتظر أبا سفيان وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران ، وبعض الناس يقول : قد بلغ عسفان . ثم بدا له في الرجوع ، فقال : يا معشر قريش ، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ، ترعون فيه الشجر ، وتشربون فيه اللبن ، فإن عامكم هذا عام جدب ، وإني راجع فارجعوا . فرجع الناس ، فسماهم أهل مكة جيش السويق ، يقولون : إنما خرجتم تشربون السويق . قال : وأتى مخشي بن عمرو الضمري وقد كان وادع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ودان على بني ضمرة فقال : يا محمد ، أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟ قال : نعم يا أخا بني ضمرة ، وإن شئت رددنا [ ص: 574 ] إليك ما كان بيننا وبينك وجالدناك ، حتى يحكم الله بيننا وبينك . قال : لا والله يا محمد ، ما لنا بذلك من حاجة . ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وقد قال عبد الله بن رواحة - يعني في انتظارهم أبا سفيان ورجوعه بقريش عامه ذلك - قال ابن هشام : وقد أنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا     فأقسم لو لاقيتنا فلقيتنا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لأبت ذميما وافتقدت المواليا     تركنا به أوصال عتبة وابنه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعمرا ، أبا جهل تركناه ثاويا     عصيتم رسول الله أف لدينكم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأمركم السيئ الذي كان غاويا     فإني وإن عنفتموني لقائل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فدى لرسول الله أهلي وماليا     أطعناه لم نعدله فينا بغيره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وقال حسان بن ثابت في ذلك : [ ص: 575 ]


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      دعوا فلجات الشام قد حال دونها     جلاد كأفواه المخاض الأوارك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم     وأنصاره حقا وأيدي الملائك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا سلكت للغور من بطن عالج     فقولا لها ليس الطريق هنالك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أقمنا على الرس النزوع ثمانيا     بأرعن جرار عريض المبارك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بكل كميت جوزه نصف خلقه     وقب طوال مشرفات الحوارك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ترى العرفج العامي تذري أصوله     مناسم أخفاف المطي الرواتك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإن تلق في تطوافنا والتماسنا     فرات بن حيان يكن رهن هالك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده     يزد في سواد لونه لون حالك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأبلغ أبا سفيان عني رسالة     فإنك من غر الرجال الصعالك [ ص: 576 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب - وقد أسلم فيما بعد ذلك :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحسان إنا يا ابن آكلة الفغا     وجدك نغتال الخروق كذلك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خرجنا وما تنجو اليعافير بيننا     ولو وألت منا بشد مدارك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا ما انبعثنا من مناخ حسبته     مدمن أهل الموسم المتعارك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أقمت على الرس النزوع تريدنا     وتتركنا في النخل عند المدارك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      على الزرع تمشي خيلنا وركابنا     فما وطئت ألصقنه بالدكادك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أقمنا ثلاثا بين سلع وفارع     بجرد الجياد والمطي الرواتك [ ص: 577 ]
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حسبتم جلاد القوم عند فنائكم     كمأخذكم بالعين أرطال آنك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا تبعث الخيل الجياد وقل لها     على نحو قول المعصم المتماسك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سعدتم بها وغيركم كان أهلها     فوارس من أبناء فهر بن مالك
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإنك لا في هجرة إن ذكرتها     ولا حرمات دينها أنت ناسك

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام تركنا منها أبياتا لاختلاف قوافيها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر موسى بن عقبة ، عن الزهري ، وابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر الناس لموعد أبي سفيان وانبعث المنافقون في الناس يثبطونهم ، فسلم الله أولياءه ، وخرج المسلمون صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وأخذوا معهم بضائع ، وقالوا : إن وجدنا أبا سفيان وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر . ثم ذكر نحو سياق ابن إسحاق في خروج أبي سفيان إلى مجنة ورجوعه ، وفي مقاولة الضمري وعرض النبي صلى الله عليه وسلم المنابذة فأبى ذلك . [ ص: 578 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الواقدي : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها في ألف وخمسمائة من أصحابه ، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة وكان خروجه إليها في مستهل ذي القعدة . يعني سنة أربع . والصحيح قول ابن إسحاق أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة ، ووافق قول موسى بن عقبة أنها في شعبان ، لكن قال : في سنة ثلاث . وهذا وهم ; فإن هذه تواعدوا إليها من أحد ، وقد كانت أحد في شوال سنة ثلاث كما تقدم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الواقدي : فأقاموا ببدر مدة الموسم الذي كان يعقد فيها ثمانية أيام ، فرجعوا وقد ربحوا من الدرهم درهمين . وقال غيره : فانقلبوا كما قال الله عز وجل : بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم [ آل عمران : 174 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية