الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1985 [ ص: 191 ] 29 - باب: ذكر القين والحداد

                                                                                                                                                                                                                              2091 - حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن خباب قال : كنت قينا في الجاهلية ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه . قال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - . فقلت : لا أكفر حتى يميتك الله ، ثم تبعث . قال : دعني حتى أموت وأبعث ، فسأوتى مالا وولدا فأقضيك . فنزلت : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا . [مريم : 77 - 78]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              القين : هو الحداد ، ثم استعمل في الصانع ، قال ابن سيده : القين : الحداد . وقيل : كل صانع قين .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : والقين أيضا العبد ، والقينة : المغنية والأمة والماشطة أيضا ، والتقين : التزين بأنواع الزينة ، والجمع أقيان وقيون .

                                                                                                                                                                                                                              وقد قان الحداد قينا ضربها بالمطرقة . وقان الشيء يقين قيانة : أصلحه .

                                                                                                                                                                                                                              وقالت أم أيمن : أنا قينت عائشة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أي : زينتها .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 192 ] والقين : هو الذي يصلح الأبنية أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث خباب قال : كنت قينا في الجاهلية ، وكان لي على العاصي بن وائل دين ، فأتيته أتقاضاه . قال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد قلت : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ، ثم تبعث . قال : دعني حتى أموت وأبعث ، فسأوتى مالا وولدا فأقضيك .

                                                                                                                                                                                                                              فنزلت : أفرأيت الذي كفر بآياتنا الآية [مريم : 77] .

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه البخاري في موضع آخر قريبا ، في باب : هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في دار الحرب بلفظ : (وإني لمبعوث بعد الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال) . وقال في التفسير إثره : قال ابن عباس : هدا [مريم : 90] أي : هدما . وقد أسنده ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن أبيه ، ثنا أبو صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن طلحة ، عنه .

                                                                                                                                                                                                                              قال مقاتل : صاغ خباب شيئا من الحلي فلما طلب منه الأجر قال : ألستم تزعمون أن في الجنة الحرير والذهب والفضة والولدان ؟ قال خباب : نعم . قال العاصي : فميعاد ما بيننا الجنة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الكلبي ومقاتل فيما ذكره الواحدي : كان خباب قينا وكان العاصي يؤخر حقه فأتاه يتقاضاه ، فقال : ما عندي اليوم ما أقضيك . فقال خباب : لست بمفارقك حتى تقضيني . فقال العاصي : يا خباب [ ص: 193 ] ما لك! ما كنت هكذا ، وإن كنت لحسن الطلب . قال : كنت إذ ذاك على دينك وأما اليوم فإني على الإسلام . قال : أفلستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ؟ قال : بلى . قال : فأخرني حتى أقضيك في الجنة -استهزاء- فوالله إن كان ما تقول حقا إني لأفضل فيها نصيبا منك . فأنزل الله الآية .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الباب كالباب قبله أن الحداد لا تضره مهنته في صناعته إذا كان عدلا .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو العتاهية :

                                                                                                                                                                                                                              ألا إنما التقوى هو العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والعدم وليس على حر تقي نقيصة
                                                                                                                                                                                                                              إذا أسس التقوى وإن حاك أو حجم

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن الكلمة من الاستهزاء قد يتكلم بها المرء فيكتب الله لربها سخطه إلى يوم القيامة . ألا ترى وعيد الله على استهزائه بقوله سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا [مريم : 79 ، 80] يعني من المال والولد بعد إهلاكنا إياه . ويأتينا فردا أي : نبعثه وحده تكذيبا لظنه .

                                                                                                                                                                                                                              وكان العاصي بن وائل لا يؤمن بالبعث فلذلك قال له خباب : (والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث) . ولم يرد خباب أنه إذا بعثه الله بعد الموت أن يكفر بمحمد لأنه حينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [الحجر : 2] ، ويتمنى العاصي بن وائل وغيره أن لو كان ترابا ولم يكن كافرا وبعد البعث يستوي يقين المكذب به مع يقين المؤمن [ ص: 194 ] ويرتفع الكفر وتزول الشكوك وكان غرض خباب من قوله إياس العاصي من كفره ، وذكر ابن الكلبي عن جماعة في الجاهلية أنهم كانوا زنادقة منهم العاصي بن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، والوليد بن المغيرة ، وأبي بن خلف .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : جواز الإغلاظ في اقتضاء الدين لمن خالف الحق وظهر منه الظلم والتعدي . فإن قلت : من عين الكفر آجلا فهو كافر الآن إجماعا ، فكيف يصدر هذا عن خباب ودينه أصح وعقيدته أثبت وإيمانه أقوى وآكد من هذا كله . قلت : لم يرد خباب هذا وإنما أراد لا تعطني حتى تموت ثم تبعث أو إنك لا تعطيني ذلك في الدنيا فهنالك يؤخذ قسرا منك .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو الفرج : لما كان اعتقاد هذا المخاطب أنه لا يبعث خاطبه على اعتقاده فكأنه قال : لا أكفر أبدا . وقيل : أراد خباب أنه إذا بعث لا يبقى كفر ; لأن الدار دار الآخرة . وقرئ : (وولدا) بضم الواو ذكره الفراء ، ونصبها عاصم ، وثقل في كل القرآن ، وقرأ مجاهد : ماله وولده إلا خسارا ، ونصب سائر القرآن . والولد والولد لغتان ، وقيس تجعل الولد جمعا والولد واحدا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 195 ] وقال الفارابي : الولد لغة في الولد ويكون واحدا وجمعا ، وذكره أيضا بكسر الواو وفتح الواو . وقال ابن سيده : الولد والولد ما ولد أيا ما كان وهو يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى ، ويجوز أن يكون الولد جمع ولد كوثن ووثن . والولد كالولد وليس بجمع . والولد أيضا : الرهط .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية