الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون

                                                                                                                                                                                                                                      فلما أحس عيسى منهم الكفر شروع في بيان مآل [ ص: 41 ] أحواله عليه السلام إثر ما أشير إلى طرف منها بطريق النقل عن الملائكة، و "الفاء" فصيحة; تفصح عن تحقق جميع ما قالته الملائكة وخروجه من القوة إلى الفعل حسبما شرحته، كما في قوله تعالى: فلما رآه مستقرا عنده بعد قوله تعالى: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك كأنه قيل: فحملته فولدته فكان كيت وكيت. و قال ذيت و ذيت وإنما لم يذكر اكتفاء بحكاية الملائكة و إيذانا بعدم الخلف وثقة بما فصل في المواضع الأخر، وأما عدم نظم بقية أحواله عليه الصلاة والسلام في سلك النقل فإما للاعتناء بأمرها أو لعدم مناسبتها لمقام البشارة لما فيها من ذكر مقاساته عليه الصلاة والسلام للشدائد ومعاناته للمكايد، والمراد بالإحساس: الإدراك القوي الجاري مجرى المشاهدة و بالكفر إصرارهم عليه وعتوهم ومكابرتهم فيه مع العزيمة على قتله عليه الصلاة والسلام كما ينبئ عنه الإحساس، فإنه إنما يستعمل في أمثال هذه المواقع عند كون متعلقه أمرا محذورا مكروها، كما في قوله عز وجل: فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون وكلمة "من" متعلقة بـ "أحس" والضمير المجرور لبني إسرائيل، أي: ابتدأ الإحساس من جهتهم، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. و قيل: متعلقة بمحذوف وقع حالا من الكفر. قال أي: لخص لأصحابه لا لجميع بني إسرائيل لقوله تعالى: كما قال عيسى ابن مريم للحواريين الآية. وقوله تعالى: فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ليس بنص في توجيه الخطاب إلى الكل بل يكفي فيه بلوغ الدعوة إليهم. من أنصاري الأنصار جمع نصير كأشراف جمع شريف. إلى الله متعلق بمحذوف وقع حالا من الياء، أي: من أنصاري متوجها إلى الله ملتجئا إليه، أو بأنصاري متضمنا معنى الإضافة كأنه قيل: من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله عز وجل ينصرونني كما ينصرني؟ وقيل: "إلى" بمعنى في، أي: في سبيل الله. وقيل: بمعنى اللام. وقيل: بمعنى مع. قال استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: فماذا قالوا في جوابه عليه الصلاة والسلام؟ فقيل: قال. الحواريون جمع حواري يقال فلان حواري فلان، أي: صفوته وخالصته من الحور و هو البياض الخالص، و منه الحواريات للحضريات لخلوص ألوانهن ونقائهن، سمي به أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام لخلوص نياتهم ونقاء سرائرهم. وقيل: لما عليهم من آثار العبادة وأنوارها. وقيل: كانوا ملوكا يلبسون البيض، وذلك أن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه الصلاة والسلام على قصعة لا يزال يأكل منها ولا تنقص فذكروا ذلك للملك فاستدعاه عليه الصلاة والسلام فقال له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم فترك ملكه وتبعه مع أقاربه، فأولئك هم الحواريون. وقيل: كانوا صيادين يصطادون السمك يلبسون الثياب البيض فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا فمر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لهم: أنتم تصيدون السمك فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية، قالوا: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم عبد الله و رسوله فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئا فأمره عيسى عليه الصلاة والسلام بإلقائها في الماء مرة أخرى ففعل فاجتمع في الشبكة من السمك ما كادت تتمزق واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا السفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام. وقيل: كانوا اثني عشر رجلا آمنوا به عليه الصلاة والسلام واتبعوه وكانوا إذا جاعوا قالوا: جعنا يا روح الله فيضرب بيده الأرض فيخرج منها لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا: [ ص: 42 ] عطشنا فيضرب بيده الأرض فيخرج منها الماء فيشربون، فقالوا: من أفضل منا قال عليه الصلاة والسلام: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة فسموا حواريين. وقيل: إن أمه سلمته إلى صباغ فأراد الصباغ يوما أن يشتغل ببعض مهماته فقال له عليه الصلاة والسلام: ههنا ثياب مختلفة قد جعلت لكل واحد منها علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان فغاب فجعل عليه الصلاة والسلام كلها في جب واحد و قال: كوني بإذن الله كما أريد فرجع الصباغ فسأله فأخبره بما صنع، فقال: أفسدت علي الثياب قال: قم فانظر، فجعل يخرج ثوبا أحمر و ثوبا أخضر و ثوبا أصفر إلى أن أخرج الجميع على أحسن ما يكون حسبما كان يريد فتعجب منه الحاضرون وآمنوا به عليه الصلاة والسلام وهم الحواريون. قال القفال: ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك وبعضهم من صيادي السمك و بعضهم من القصارين و بعضهم من الصباغين، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه الصلاة والسلام و أعوانه و المخلصين في طاعته ومحبته. نحن أنصار الله أي: أنصار دينه و رسوله. آمنا بالله استئناف جار مجرى العلة لما قبله، فإن الإيمان به تعالى موجب لنصرة دينه والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه. واشهد بأنا مسلمون مخلصون في الإيمان منقادون لما تريد منا من نصرتك، طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الشهادة بذلك يوم القيامة يوم يشهد الرسل عليهم الصلاة والسلام لأممهم وعليهم إيذانا بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية