الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 72 ] قوله تعالى :

يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا

المخاطبة بقوله: يا أيها الناس ؛ مخاطبة لجميع الناس؛ والسورة مدنية؛ فهذا مما خوطب به جميع الناس بعد الهجرة؛ لأن الآية دعاء إلى الشرع؛ ولو كانت في أمر من أوامر الأحكام ونحوها لكانت: "يا أيها الذين آمنوا"؛ والرسول في هذه الآية: محمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ والحق هو شرعه.

وقوله تعالى : خيرا لكم ؛ منصوب بفعل مضمر؛ تقديره: "ائتوا خيرا لكم"؛ أو "حوزوا خيرا لكم"؛ وقوله: "فآمنوا"؛ وقوله: "انتهوا" - بعد ذلك - أمر بترك الشيء؛ والدخول في غيره؛ فلذلك حسنت صفة التفضيل التي هي "خيرا"؛ هذا مذهب سيبويه في نصب "خيرا"؛ ونظيره من الشعر قول عمر بن أبي ربيعة :


فواعديه سرحتي مالك ... أو الربى بينهما أسهلا



أي: يأت أسهل؛ وقال أبو عبيدة : التقدير: يكن الإيمان خيرا؛ والانتهاء خيرا؛ فنصبه على خبر "كان"؛ وقال الفراء : التقدير: فآمنوا إيمانا خيرا لكم؛ فنصبه على النعت لمصدر محذوف.

ثم قال تعالى : وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض ؛ وهذا خبر بالاستغناء؛ وأن ضرر الكفر إنما هو نازل بهم؛ ولله تعالى العلم والحكمة.

ثم خاطب تعالى أهل الكتاب من النصارى بأن يدعوا الغلو؛ وهو تجاوز الحد؛ [ ص: 73 ] ومنه غلاء السعر؛ ومنه غلوة السهم.

وقوله تعالى : "في دينكم"؛ إنما معناه: في الدين الذي أنتم مطلوبون به؛ فكأنه اسم جنس؛ وأضافه إليهم؛ بيانا أنهم مأخوذون به؛ وليست الإشارة إلى دينهم المضلل؛ ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو؛ وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق؛ وأن يوحدوا؛ ولا يقولوا على الله إلا الحق؛ وإذا سلكوا ما أمروا به فذلك سائقهم إلى الإسلام.

ثم بين تعالى أمر المسيح؛ وأنه رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - وكلمته؛ أي: مكون عن كلمته التي هي: "كن"؛ وقوله: "ألقاها"؛ عبارة عن إيجاد هذا الحادث في مريم؛ وقال الطبري : "وكلمته ألقاها"؛ يريد البشارة التي بعث الملك بها إليها؛ وقوله تعالى : "وروح منه"؛ أي: من جملة مخلوقاته؛ فـ "من"؛ لابتداء الغاية؛ إذا حقق النظر فيها؛ وقال الطبري : "وروح منه"؛ أي: نفخة منه؛ إذ هي من جبريل بأمره؛ وأنشد قول ذي الرمة :


فقلت له اضممها إليك وأحيها ...     بروحك واقتته لها قيتة قدرا



يصف سقط النار؛ وقال أبي بن كعب : روح عيسى - عليه السلام - من أرواح الله التي خلقها واستنطقها بقوله: ألست بربكم قالوا بلى ؛ فبعثه الله إلى مريم؛ فدخل فيها؛ ثم أمرهم بالإيمان بالله؛ ورسله؛ أي: الذين من جملتهم عيسى؛ ومحمد - عليهما الصلاة والسلام.

وقوله تعالى : ولا تقولوا ثلاثة ؛ المعنى: "الله ثالث ثلاثة"؛ فحذف الابتداء والمضاف؛ كذا قدر أبو علي ؛ ويحتمل أن يكون المقدر: "المعبود ثلاثة"؛ أو: "الإله ثلاثة"؛ أو: "الآلهة ثلاثة"؛ أو: "الأقانيم ثلاثة"؛ وكيفما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير؛ وقد تقدم القول في معنى انتهوا خيرا لكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية