الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب السابع في وجوب تعظيم أمره وتوقيره وبره ، وبعض ما ورد عن السلف في ذلك

                                                                                                                                                                                                                              قال الله تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه [الفتح 9] وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ، يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم [الحجرات 1 ، 2 ، 3] وقال عز وجل : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [النور 63] . وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [البقرة 104] .

                                                                                                                                                                                                                              وروى مسلم عن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنهما- أنه قال : ما كان أحد أحب إلي من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت ، فإني لم أكن أملأ عيني منه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي ، عن أنس - رضي الله تعالى عنه- قال : كان- صلى الله عليه وسلم- يخرج على أصحابه [من المهاجرين والأنصار وهم جلوس] ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر ، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ، ويبتسمان إليه ويبتسم إليهما .

                                                                                                                                                                                                                              وروى النسائي وأبو داود وابن ماجه والترمذي ، وصححه : أن أسامة بن شريك قال :

                                                                                                                                                                                                                              أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حوله كأن على رؤوسهم الطير
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، أن قريشا لما وجهوا عروة ابن مسعود إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية ، فرأى تعظيم أصحابه- رضي الله تعالى عنهم- ما رأى ، وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، فكادوا يقتتلون عليه ، ولا يبصق بصاقا ، ولا يتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم ، فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم ، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، فقال لهم حين رجع إليهم : يا معشر قريش إني جئت كسرى وقيصر ، والنجاشي في ملكهم ، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه وفي رواية : إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم محمدا أصحابه وقد رأيت قوما لا يسلمونه أبدا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى مسلم عن أنس - رضي الله تعالى عنه- : لقد رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والحلاق يحلقه وقد أطاف به أصحابه ، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل ، وقد قال عثمان - رضي [ ص: 437 ]

                                                                                                                                                                                                                              الله تعالى عنه- : لما أذنت له قريش أن يطوف بالبيت ، حين وجهه- صلى الله عليه وسلم- إليهم في القضية أبى وقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي وحسنه ، في حديث طلحة أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالوا لأعرابي جاهل سله- صلى الله عليه وسلم- عمن قضى نحبه وكانوا يهابونه . فسأله ، فأعرض عنه ، إذ طلع طلحة فقال : هذا ممن قضى نحبه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود في الأدب ، والترمذي في الشمائل ، في حديث قيلة- بقاف مفتوحة ، وتحتية ساكنة- بنت مخرمة ، العنبرية ، فلما رأته جالسا القرفصاء أرعدت من الفرق هيبة له وتعظيما .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم في علوم الحديث ، والبيهقي في المدخل في حديث المغيرة : «كان أصحابه- صلى الله عليه وسلم- يقرعون بابه بالأظافير» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو يعلى أن البراء بن عازب - رضي الله تعالى عنه- ، قال : لقد كنت أريد أن أسأله- صلى الله عليه وسلم- عن الأمر فأؤخره سنين من هيبته .

                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : قوله تعالى : وتعزروه بعين مهملة ، فزاي ، فراء ، أي : يقووه ويعينونه على دينه ، وقرئ بزايين من العز ، وهي الشدة والقوة ، قال القاضي : ونهى عن التقدم بين يديه ، بآية لا تقدموا السابقة ، وقد اختلف في تفسيرها ، فقال ابن عباس ، واختاره ثعلب : نهوا عن التقدم بين يديه بالقول وسوء الأدب ، بسبقه بالكلام ، وقال سهل بن عبد الله التستري : لا تقولوا قبل أن يقول ، وإذا قال فاستمعوا له وأنصتوا .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : اختلف في سبب نزول قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله الآيات ، وقوله تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم . وقيل : نزلت هي و لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي في محاورة كانت بين أبي بكر وعمر بين يدي النبي- صلى الله عليه وسلم- واختلاف جرى بينهما حتى ارتفعت أصواتهما عنده- صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي- صلى الله عليه وسلم- في مفاخرة بني تميم ، وكان في أذنيه صمم فكان يرفع صوته فلما نزلت أقام في منزله ، وخشي أن يكون قد حبط عمله ، ثم تفقده النبي- صلى الله عليه وسلم- فأخبر بشأنه ، فدعاه ، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال : يا نبي الله ، خشيت أن أكون هلكت ، نهانا الله- تعالى- أن نجهر بالقول ، وأنا امرؤ جهير الصوت .

                                                                                                                                                                                                                              فقال [ ص: 438 ]

                                                                                                                                                                                                                              النبي- صلى الله عليه وسلم- : يا ثابت ، أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة! فقتل يوم اليمامة ،

                                                                                                                                                                                                                              سنة اثنتي عشرة ، في ربيع الأول في خلافة الصديق
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البزار ، من طريق طارق بن شهاب : أن أبا بكر - رضي الله تعالى عنه- لما نزلت هذه الآية قال : والله يا رسول الله لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار . وفي البخاري ، كان عمر - رضي الله تعالى عنه- إذا حدثه- صلى الله عليه وسلم- حدثه كأخي السرار ، أي كصاحب المبارزة ما كان- صلى الله عليه وسلم- بعد نزول هذه الآية يسمعه حتى يستفهمه ، فأنزل الله عز وجل إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى [الحجرات 3] وقيل :

                                                                                                                                                                                                                              نزلت إن الذين ينادونك من وراء الحجرات [الحجرات 4] في غير بني تميم .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : اختلف في سبب نزول قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [البقرة 104] قال بعض المفسرين : هي لغة كانت في الأنصار ، فنهوا عن قولها تعظيما للنبي- صلى الله عليه وسلم- وتبجيلا ، لأن معناها : ارعنا نرعك ، من المراعاة ، وهي الحفظ والرفق ، فنهوا عن قولها ، إذ مقتضاها كأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم ، بل حقه الذي يجب على كل أحد أن يرعاه على كل حال .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : كانت اليهود تعرض بها للنبي- صلى الله عليه وسلم- لما سمعوا المسلمين يقولونها انتهازا للفرصة ، فخاطبوه- صلى الله عليه وسلم- بها ، مريدين بها كلمة يتسابون بها ، لأنها عندهم من الرعونة وهي الحمق ، فنهي عن قولها قطعا للذريعة ، ومنعا للتشبه في قولها . [ ص: 439 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية