الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( وبعده الفاروق من غير افترا وبعده عثمان فاترك المرا ) )



( ( وبعده ) ) أي بعد أبي بكر الصديق الأعظم أي يليه في الفضيلة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( ( الفاروق ) ) سماه بهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أسلم ، لأن الله فرق به بين الحق والباطل ، فهو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح - بكسر الراء وبالياء التحتية فحاء مهملة - بن عبد الله بن قرط - بضم القاف وسكون الراء فطاء مهملة - بن رزاح - بفتح الراء والزاي فحاء مهملة بعد الألف - بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي ، وأمه حنتمة - بفتح الحاء المهملة فنون ساكنة فتاء مثناة [ ص: 318 ] فوقية مفتوحة فميم فتاء تأنيث - بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وقال ابن الأثير : بنت هشام ، قال : ويعرف هاشم بذي الرمحين ، قال وقال الأمير بن ماكولا : ومن قال بنت هشام فقد أخطأ ، كذا قال ، وقد قال ابن الجوزي في منتخب المنتخب : إنها بنت هشام ، وهي أخت أبي جهل عمرو بن هشام فأبو جهل خال عمر - رضي الله عنه - . كنيته أبو حفص كناه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر لما نهى عن قتل رجال بني هاشم ، فإنهم إنما خرجوا مكرهين ، فقال أبو حذيفة : والله لئن لقيت العباس لألجمنه السيف ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقال : " يا أبا حفص يضرب وجه عم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسيف " فقال : والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي حفص ، رواه ابن الجوزي وغيره ، والحفص في اللغة ولد الأسد . وسبب تلقيبه بالفاروق ما رواه الحافظ ابن الجوزي في سيرة العمرين عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال : سألت عمر - رضي الله عنه - لأي شيء سميت بالفاروق ؟ فذكر حديث إسلامه ، وأخرج أبو نعيم في الدلائل وابن عساكر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سألت عمر لأي شيء سميت الفاروق ؟ قال : أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام ، وسبب إسلام حمزة أن أبا جهل أسرع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسبه ويؤذيه ، فأخبر حمزة بذلك ، فأخذ قوسه ، وعمد المسجد إلى حلقة قريش التي فيها أبو جهل ، فاتكأ على قوسه مقابل أبي جهل فنظر إليه ، فعرف أبو جهل الشر في وجهه فقال : ما لك يا أبا عمارة ؟ فرفع القوس وضربه به فشجه فسالت الدماء ، فأصلحت ذلك قريش مخافة الشر ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختفيا في دار الأرقم المخزومي ، فانطلق حمزة فأسلم قال عمر - رضي الله عنه - وخرجت بعده بثلاثة أيام ، فإذا فلان المخزومي فقلت : أرغبت أنت عن دين آبائك واتبعت دين محمد ؟ قال : إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا ، قلت : ومن ؟ قال : أختك وختنك ، فانطلقت فوجدت هينمة ، فدخلت فقلت : ماذا ؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس أختي فضربته وأدميته ، فقامت إلي أختي فأخذت برأسي ، وقالت : قد كان ذلك على رغم أنفك ، وقد أدميت رأسها ، فاستحييت حين رأيت الدماء فجلست ، وقلت : أروني [ ص: 319 ] هذا الكتاب فقالت ( لا يمسه إلا المطهرون ) فقمت واغتسلت ، فأخرجوا لي صحيفة ، فإذا فيها ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قلت : أسماء طيبة طاهرة ، وفيها : (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) إلى قوله تعالى : ( له الأسماء الحسنى ) فعظمت في صدري ، وقلت : من هذا نفرت قريش ؟ فأسلمت .

وفي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عند أبي يعلى والحاكم والبيهقي قال : خرج عمر متقلدا سيفه ، فلقيه رجل من بني زهرة ، فقال : إلى أين تعمد يا عمر ؟ فقال : أريد أن أقتل محمدا ، قال : وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدا ؟ قال : ما أراك إلا وقد صبوت . قال : أفلا أدلك على العجب ؟ إن ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك ، فمشى عمر فأتاهما وعندهما خباب ، فلما سمع بحس عمر توارى في البيت ، فدخل عمر فقال : ما هذه الهينمة ؟ وكانوا يقرءون طه ، قالا : ما عدا حديثا تحدثناه بيننا . قال : فلعلكما قد صبوتما . فقال له ختنه : يا عمر إن كان الحق في غير دينك ؟ فوثب عليه عمر فوطئه وطأ شديدا ، فجاءت أخته لتدفعه عن زوجها ، فنفحها نفحة بيده ، فدمي وجهها ، فقالت وهي غضبى : وكان الحق في غير دينك إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله . فقال عمر : أعطوني الكتاب الذي هو عندكم فأقرأه - وكان يقرأ الكتاب - . فقالت أخته : إنك رجس ، وإنه لا يمسه إلا المطهرون ، فقم واغتسل أو توضأ . فقام وتوضأ ، ثم أخذ الكتاب فقرأ ( طه ) حتى انتهى إلى ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ) ، فقال عمر : دلوني على محمد . فلما سمع خباب قول عمر خرج ، وقال : أبشر يا عمر ، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الخميس : " اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب ، أو بعمرو بن هشام " وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدار التي في أصل الصفا ، فانطلق عمر حتى أتى الدار ، وعلى بابها حمزة وطلحة وناس ، فقال حمزة : هذا عمر إن يرد الله به خيرا يسلم ، وإن يكن غير ذلك يكن قتله علينا هينا ، قال والنبي - صلى الله عليه وسلم - يوحى إليه ، فخرج حتى أتى عمر ، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف ، فقال : أما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد [ ص: 320 ] بن المغيرة ؟ فقال عمر : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك عبد الله ورسوله . وفي حديث البزار والطبراني وأبي نعيم والبيهقي في الدلائل ، عن أسلم نحوه وفيه : فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بفجاج مكة ، فجئت خالي أبا جهل بن هشام ، وكان شريفا ، فقرعت عليه الباب ، فقال : من هذا ؟ قلت : ابن الخطاب وقد صبوت . قال : لا تفعل ، ثم دخل وأجاف الباب دوني . وفي حديث ابن عباس عند أبي نعيم في الدلائل وابن عساكر ، فقلت : يا رسول الله ألسنا على الحق ؟ قال : بلى . قلت ففيم الاختفاء ؟ فخرجنا صفين أنا في أحدهما ، وحمزة في الآخر ، حتى دخلنا المسجد ، فنظرت قريش إلى حمزة ، فأصابتهم كآبة شديدة ، فسماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاروق يومئذ ، وفرق بين الحق والباطل . وأخرج ابن سعد عن ذكوان قال : قلت لعائشة - رضي الله عنها - : من سمى عمر الفاروق ؟ قالت : النبي - صلى الله عليه وسلم - . وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لما أسلم عمر نزل جبريل ، فقال : يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر . وأخرج البزار والحاكم وصححه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لما أسلم عمر قال المشركون : قد انتصف القوم اليوم منا . وأنزل الله تعالى : ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) . وأخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر . وأخرج ابن سعد عنه أيضا قال : كان إسلام عمر فتحا ، وكانت هجرته نصرا ، وكانت إمامته رحمة ، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصل إلى البيت حتى أسلم عمر ، قاتلهم حتى تركوا سبيلنا .

وقال حذيفة : لما أسلم عمر كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قوة ، ولما قتل كان الإسلام كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدا . وكان إسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في السنة السادسة من البعثة ، وعمره يومئذ سبع وعشرون سنة ، وكان إسلامه بعد تسعة وثلاثين رجلا أو أربعين أو خمسة وأربعين وإحدى عشرة امرأة ، ففرح المسلمون بإسلامه ، وظهر الإسلام بمكة عقب إسلامه .

وقد وردت الأحاديث الكثيرة ، والأخبار الشهيرة بفضائله ، ففي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 321 ] وسلم - : " يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك " . وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد كان في من كان قبلكم من الأمم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر " . أي ملهمون . وأخرجه مسلم أيضا من حديث عائشة - رضي الله عنها - ولفظه قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قد كان يكون في الأمم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد فعمر بن الخطاب " . ورواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . قال ابن عيينة : محدثون أي مفهمون . وقال ابن وهب : تفسير محدثون ملهمون . وأخرج الترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " . قال ابن عمر : وما نزل بالناس أمر قط فقالوا وقال إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر . وأخرج الترمذي أيضا عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو كان بعدي نبي لكان عمر " . وأخرج من حديث عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس فروا من عمر " . وفي الصحيحين والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليهم قمص ، فمنها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما يبلغ دون ذلك ، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره - قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : الدين " . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بينا أنا نائم رأيتني في الجنة ، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر ، فقلت لمن هذا ؟ قالوا : لعمر ، فذكرت غيرته فوليت مدبرا " . فبكى عمر - رضي الله عنه - وقال : عليك أغار يا رسول الله ؟ وفي الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب ، فقلت : لمن هذا ؟ فقالوا : لشاب من قريش ، فظننت أني أنا هو ، قالوا : عمر بن الخطاب " . وقد قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - : ما على وجه الأرض أحد أحب إلي من عمر . أخرجه ابن عساكر وقيل لأبي بكر : [ ص: 322 ] ماذا تقول لربك وقد وليت عمر ؟ قال : أقول له : وليت عليهم خيرهم . أخرجه ابن سعد . وقال علي - رضي الله عنه - : إذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر ، ما كنا نعد أن السكينة لا تنزل إلا على لسان عمر . أخرجه الطبراني في الأوسط ، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : لو أن علم عمر وضع في كفة ووضع علم أحياء الأرض في كفة ، لرجح علم عمر ، ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم . أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم . وقال حذيفة - رضي الله عنه - : والله ما أعرف رجلا لا تأخذه في الله لومة لائم إلا عمر .

وعلى كل حال فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد الصديق الأعظم أفضل هذه الأمة ( ( من غير افترا ) ) أي من غير الكذب يقال فري يفري فريا وافترى يفتري افتراء أي كذب فهو افتعال منه ، وفي الآية الكريمة : ( ولا يأتين ببهتان يفترينه ) وفي الحديث : " من أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا " . فالفرى جمع فرية وهي الكذبة ، وأفرى أفعل منه للتفضيل ، وتقدم الكلام على ذلك في الكلام على الحوض عند قوله : ( عنه يذاد المفتري كما ورد ) ، ولما كان الحكم بأفضلية أبي بكر ثم عمر الفاروق - رضي الله عنهما - بالنص والإجماع صرح بقوله : من غير افترا ؛ إشارة لرد قول الخطابية الزاعمين بأن عمر - رضي الله عنه - أفضل الخلفاء ، وهذا الزعم بالنسبة للصديق زور وافتراء وكذب وضلال من زاعميه ، نعم بالنسبة إلى من بعد الصديق حق لا مرية فيه ، وكذلك فيه إشارة إلى رد قول الراوندية في زعمهم أن أفضل الصحابة العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - ، والرد على الشيعة في زعمهم أن أفضلهم علي - رضي الله عنه - كما يأتي الكلام عليه قريبا .

وقد أخرج الحاكم في الكنى ، وابن عدي في الكامل ، والخطيب في تاريخه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبو بكر وعمر خير الأولين والآخرين ، وخير أهل السماوات ، وخير أهل الأرض إلا النبيين والمرسلين " . وأخرج الترمذي عن أبي سعيد [ ص: 323 ] الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ، ووزيران من أهل الأرض ، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل ، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر " . وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن علي - رضي الله عنه - وابن ماجه عنه أيضا ، وعن أبي جحيفة - رضي الله عنه - وأبو يعلى في مسنده ، والضياء في المختارة عن أنس ، والطبراني في الأوسط عن جابر ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم أجمعين - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين " . - يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما - . وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - .

وهاجر عمر - رضي الله عنه - إلى المدينة جهرا وذلك أنه تقلد سيفه وأخذ بيده أسهما ، وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها ، فطاف سبعا ثم صلى ركعتين عند المقام ، ثم أتى حلقهم واحدة واحدة ، فقال : شاهت الوجوه من أراد تثكله أمه ، وييتم ولده ، وترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي . فما تبعه منهم أحد . وشدة عمر وشجاعته لا تخفى حتى أنه وصف في التوراة بأنه قرن من حديد ، شهد المشاهد كلها ، وكان شديدا على الكفار والمنافقين .

ومناقبه كثيرة وفضائله شهيرة ، وقد وافق ربه في عدة أحكام مأثورة وموافقات في الآيات القرآنية مخبورة .

ولي الخلافة بعهد من خليفة رسول الله الصديق الأكبر أبي بكر - رضي الله عنه - يوم توفي ، وذلك يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة فقام بالأمر أتم قيام ، وكثرت الفتوحات في أيامه : ففي سنة أربع عشرة فتحت دمشق بين الصلح والعنوة ، وحمص وبعلبك صلحا ، وأيلة عنوة وفيها جمع الناس على صلاة التراويح ، وفي الخامسة عشرة فتحت الأردن عنوة ، إلا طبرية فإنها فتحت صلحا ، وفيها كانت وقعة اليرموك والقادسية ، وفيها حاصر عمرو مصر ومصر سعد الكوفة ، وفيها فرض عمر الفروض ودون الدواوين وأعطى العطايا .

وفي السادسة عشرة فتحت الأهواز والمدائن ، وأقام بها سعد الجمعة في إيوان كسرى وهي أول جمعة جمعت بالعراق ، وفيها كانت وقعة جلولا وهرمز ويزدجرد بن كسرى [ ص: 324 ] وتقهقر إلى الري وفيها فتحت تكريت ، وفيها سار بنفسه - رضي الله عنه - ففتح بيت المقدس صلحا وخطب بالجابية خطبته المشهورة ، وفيها فتحت قنسرين عنوة ، وحلب وأنطاكية ومنبج صلحا ، وفيها كتب التاريخ في ربيع الأول من الهجرة بمشورة علي - رضي الله عنه - .

وفي السابعة عشرة زاد عمر - رضي الله عنه - في المسجد النبوي ، وفيها كان القحط بالحجاز فسمي عام الرمادة ، واستسقى عمر بالعباس فأخذ عمر - رضي الله عنه - بيد العباس - رضي الله عنه - ثم رفعها ، فقال : اللهم إنا نستشفع إليك بعم نبيك - صلى الله عليه وسلم - أن تذهب عنا المحل وأن تسقينا الغيث ، فلم يبرحوا حتى سقوا فأطبقت السماء عليهم أياما .

وفي الثامنة عشرة فتحت جنديسابور صلحا وحلوان عنوة ، وفيها وقع طاعون عمواس ، وفيها فتحت الرهاء وشميساط وحران ونصيبين وطائفة من الجزيرة عنوة ، وكذا الموصل ونواحيها .

وفي سنة تسع عشرة فتحت قيسارية ، وفي سنة عشرين فتحت مصر عنوة وقيل صلحا ، وإسكندرية عنوة ، والمغرب كله عنوة ، وفيها فتحت تستر ، وفيها هلك قيصر ملك الروم ، وفيها أجلى عمر اليهود عن خيبر وعن نجران وقسم خيبر ووادي القرى ، وفي سنة إحدى وعشرين فتحت نهاوند عنوة ولم يكن للأعاجم بعدها جماعة ، وفي سنة اثنتين وعشرين فتحت كرمان وسجستان ومكران من بلاد الجبل وأصبهان ونواحيها . وفي آخرها كانت وفاة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وذلك بعد رجوعه من الحج .

قال ابن المسيب : لما نفر عمر من منى أناخ بالأبطح ، ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء ، وقال : اللهم كبرت سني ، وضعفت قوتي ، وانتشرت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط ، فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل شهيدا ، وكان قال له كعب الأحبار : إني أجدك في الكتاب الأول تقتل شهيدا فقال : وأنى لي بالشهادة في جزيرة العرب ؟ ثم قال عمر - رضي الله عنه - : اللهم ارزقني شهادة في سبيلك ، واجعل موتي في بلد نبيك ، وكان قد قال في خطبته : رأيت كأن ديكا نقرني نقرة أو نقرتين ، وإني لأراه حضور أجلي ، وإن قوما يأمروني أن أستخلف ، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله - صلى الله [ ص: 325 ] عليه وسلم - وهو عنهم راض . قال الزهري : كان عمر - رضي الله عنه - لا يأذن لكافر قد احتلم في دخول المدينة ، حتى كتب المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يذكر له غلاما عنده صنائع يستأذنه أن يدخل المدينة ، ويقول : إن عنده أعمالا كثيرة فيها منافع للناس ، وأنه حداد ونقاش ونجار ، فأذن له أن يرسله إلى المدينة ، وضرب عليه المغيرة مائة درهم في كل شهر ، فجاء إلى عمر يشتكي شدة الخراج ، فقال له : ما خراجك بكثير . فانصرف ساخطا ، ثم قال له عمر - رضي الله عنه - : ألم أخبر أنك تقول : لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح ؟ فالتفت إلى عمر عابسا وقال : لأضعن لك رحى يتحدث الناس بها ، فلما ولى قال لأصحابه : أوعدني العبد وهو أبو لؤلؤة ، ثم إنه الخبيث اشتمل على خنجر ذي رأسين نصابه في وسطه ، فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس ، فلم يزل هناك حتى خرج عمر يوقظ الناس للصلاة ، فلما دنا منه طعنه ثلاث طعنات ، كما أخرجه الحاكم ، وطعن معه اثني عشر رجلا مات منهم ستة ، فألقى عليه رجل من أهل العراق ثوبا فلما اغتم فيه قتل نفسه . قال أبو رافع : كان أبو لؤلؤة عبدا للمغيرة يصنع الأرحاء ، وحمل عمر - رضي الله عنه - إلى أهله وكادت تطلع الشمس ، فصلى عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - بالناس بأقصر سورتين ، وأتي عمر بنبيذ فشربه فخرج من جرحه فلم يتبين ، فسقوه لبنا فخرج ثانيا ، فقالوا : لا بأس عليك . فقال : إن يكن في القتل بأس فقد قتلت . فجعل الناس يثنون عليه ويقولون كنت وكنت ، فقال : أما والله وددت أني خرجت منها كفافا لا علي ولا لي ، وأن صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلمت لي ، فأثنى عليه ابن عباس فقال : لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع ، وقد جعلتها شورى في عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد ، وأجلهم ثلاثة أيام ، وقال : يشهد عبد الله بن عمر معهم وليس له من الأمر شيء ، فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك ، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر ، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة ، وأمر صهيبا أن يصلي بالناس . قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - : كان أبو لؤلؤة مجوسيا وكان اسمه فيروز . وقال عمر - رضي الله عنه - : الحمد لله الذي جعل منيتي بيد رجل لا يدعي الإسلام . وكانت إصابته يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة [ ص: 326 ] ثلاث وعشرين ، ودفن يوم الأحد ، وصح أن الشمس كسفت يوم موته وناحت الجن عليه . ثم قال عمر - رضي الله عنه - لابنه عبد الله - رضي الله عنه - : انظر ما علي من الدين ، فحسبوه فوجدوه ثلاثين ألفا أو نحوها ، فقال : إن وفى مال آل عمر أده من أموالهم ، وإلا فاسأل في بني عدي ، فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش ، واذهب إلى أم المؤمنين عائشة وقل : يستأذن عمر أن يدفن عند صاحبيه ، فذهب إليها فقالت : كنت أريده - تعني المكان - لنفسي ، والله لأوثرنه اليوم على نفسي ، فأتى عبد الله فقال : قد أذنت . فحمد الله تعالى ، ثم قال - رضي الله عنه - : أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله تعالى ، وأوصيه بالمهاجرين والأنصار ، وأوصيه بالأمصار خيرا ، فلما توفي - رضي الله عنه - صلى عليه صهيب في المسجد ، وخرج الناس يمشون وعبد الله أمامهم ، فسلم عبد الله وقال عمر يستأذن ، فقالت عائشة - رضي الله عنها - : أدخلوه . فأدخل فوضع هناك مع صاحبيه . رضي الله عن أبي بكر وعمر ، وصلوات الله وسلامه على رسوله وحبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - .

روي لأمير المؤمنين من الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثا ، أخرج له في الصحيحين منها أحد وثمانون ، اتفقا على ستة وعشرين ، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين ، ومسلم بأحد وعشرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية