الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الحوادث التي كانت في سنة ثلاث عشرة من النبوة

من ذلك:

[ذكر العقبة الثانية]

خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموسم ، فلقيه جماعة من الأنصار ، فواعدوه بالعقبة من أوسط أيام التشريق ، فاجتمعوا فبايعوه .

قال كعب بن مالك: خرجنا في حجاج قومنا حتى قدمنا مكة وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق [فلما فرغنا إلى الحج ، وكانت الليلة التي واعدنا [ ص: 35 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم] لها ، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حزام : أبو جابر ، وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا أمرنا ، فقلنا: يا أبا جابر ، إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا .

ثم دعوناه إلى الإسلام ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة ، فأسلم وشهد معنا العقبة ، وكان نقيبا ، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا ، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا ، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ، ونحن [ثلاثة و] سبعون رجلا ، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب أم عمارة ، وأسماء بنت عمرو بن عدي وهي: أم منيع ، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له .

فلما جلس كان أول من تكلم العباس ، فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج ، خزرجها وأوسها - إن محمدا منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه ، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده ، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده .

قال: فقلنا: إنا قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت .

قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلا القرآن ودعا إلى الله تبارك وتعالى ، ورغب في [ ص: 36 ] الإسلام ، ثم قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم" .

قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال: والذي بعثك بالحق ، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة ، ورثناها كابرا عن كابر .

قال: فاعترض القول ، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبو الهيثم بن التيهان ، فقال: يا رسول الله ، إن بيننا وبين الناس حبالا ونحن قاطعوها - يعني: اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: " [بل] الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنتم مني وأنا منكم ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم" .

وقال: "أخرجوا إلي اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم" . [ ص: 37 ]

فأخرجوا اثني عشر نقيبا ، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس .
وقال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حرام : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: "أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم [وأنا كفيل على قومي] قالوا: نعم . قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله ، قال العباس بن عبادة بن نضلة: يا معشر الخزرج ، هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم . قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلا أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال ، وقتل الأشراف ، فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة .

قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله ، إن نحن وفينا؟ قال: "الجنة" . قالوا: ابسط يدك . فبسط يده ، فبايعوه .


فأما عاصم بن عمر بن قتادة فقال: والله ما قال العباس ذلك إلا ليشد بالعقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أعناقهم . وأما عبد الله بن أبي بكر فقال: والله ما قال العباس ذلك إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي ابن سلول ، فيكون أقوى لأمر القوم . والله يعلم أي ذلك كان .

فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة ، أسعد بن زرارة ، كان أول من ضرب على يديه ، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان .

وقال كعب بن مالك: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور ، ثم بايع القوم . [ ص: 38 ]

فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة ، بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب ، هل لكم في مذمم ، والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يقول عدو الله ، هذا أزب العقبة ، اسمع أي عدو الله ، أما والله لأفرغن لك" .

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارفضوا إلى رحالكم" فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق ، لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا؟ .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم" .


فرجعنا إلى مضاجعنا ، فنمنا عليها حتى أصبحنا ، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش ، حتى جاءونا في منازلنا ، فقالوا: يا معشر الخزرج ، إنا قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا ، وإنه والله ما من حي أبغض إلينا ، أن تنشب الحرب بيننا وبينهم ، منكم .

قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء ، وما علمناه . قال: وصدقوا لم يعلموا . قال: وبعضنا ينظر إلى بعض . قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حرام : أن قريشا أتوا عبد الله بن أبي ابن سلول ، وذكروا له ما قد سمعوا من أصحابه ، فقال: إن هذا الأمر [ ص: 39 ] جسيم ، وما كان قومي ليتفوتوا علي بمثل ذلك ، وما علمته . فانصرفوا عنه .

أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن الحسين قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن الحسين المروزي قال: أخبرنا أحمد بن الحارث بن محمد بن عبد الكريم قال: حدثني جدي محمد بن عبد الكريم قال: أخبرنا الهيثم بن عدي قال: أخبرنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس قال:

تفاخرت الأوس والخزرج ، فقال الأوس: منا أربعة ليس فيكم مثلهم: منا من اهتز عرش الرحمن لموته: سعد بن معاذ ، ومنا غسيل الملائكة: حنظلة بن أبي عامر ، ومنا من حمت لحمه الدبر: عاصم بن أبي ثابت ، ومنا من جعلت شهادته شهادة رجلين: خزيمة بن ثابت .

فقالت الخزرج: منا أربعة كلهم جمع كتاب الله الذي ارتضاه لنفسه وأنزله على نبيه ولم يجمعه رجل منكم: أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو الدرداء .

التالي السابق


الخدمات العلمية