الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4521 (باب منه)

                                                                                                                              وذكره النووي، في (الباب الغابر).

                                                                                                                              [ ص: 597 ]

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 32 - 34 ج16، المطبعة المصرية

                                                                                                                              (عن ابن عباس، قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، بمكة: قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم: أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله، ثم ائتني. فانطلق الآخر، حتى قدم مكة، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما، ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني فيما أردت. فتزود، وحمل شنة له، فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه. وكره: أن يسأل عنه، حتى أدركه -يعني الليل- فاضطجع، فرآه علي، فعرف أنه غريب. فلما رآه: تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى أصبح. ثم احتمل قربته وزاده: إلى المسجد، فظل ذلك اليوم، ولا يرى النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه. فمر به علي، فقال: ما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث: فعل مثل ذلك. فأقامه علي معه، ثم قال له: ألا تحدثني: ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني: فعلت. ففعل، فأخبره. فقال: فإنه حق. وهو رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فإذا أصبحت فاتبعني. فإني: إن رأيت شيئا أخاف عليك: قمت كأني أريق الماء. فإن مضيت فاتبعني، حتى تدخل مدخلي. ففعل، فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي، صلى الله عليه وسلم، ودخل معه، فسمع [ ص: 598 ] من قوله، وأسلم مكانه. فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك، فأخبرهم، حتى يأتيك أمري" فقال: والذي نفسي بيده! لأصرخن بها بين ظهرانيهم. فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" وثار القوم: فضربوه، حتى أضجعوه. فأتى العباس، فأكب عليه، فقال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من "غفار" وأن طريق تجاركم إلى الشام: عليهم؟ فأنقذه منهم. ثم عاد من الغد بمثلها، وثاروا إليه: فضربوه، فأكب عليه العباس، فأنقذه).

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن ابن عباس، رضي الله عنهما؛ قال: لما بلغ "أبا ذر" مبعث النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم بمكة: قال لأخيه أنيس) بضم الهمزة، مصغرا: (اركب، وسر إلى هذا الوادي) وادي مكة (فاعلم) بهمزة وصل (لي: علم) بكسر العين وسكون اللام (هذا الرجل، الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الآخر) : هكذا هو في أكثر النسخ.

                                                                                                                              وفي بعضها: "الأخ" بدل "الآخر" وهو هو. فكلاهما صحيح (حتى قدم مكة، وسمع من قوله) الذي يسلب الأرواح، [ ص: 599 ] صلى الله عليه وآله وسلم.

                                                                                                                              (ثم رجع إلى "أبي ذر" فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلاما ما هو بالشعر).

                                                                                                                              وتقدم في الرواية الأولى: "ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فلم يلتئم عليها. والله! إنه لصادق". (فقال: ما شفيتني فيما أردت) كذا في جميع نسخ مسلم: "فيما" بالفاء.

                                                                                                                              وفي رواية البخاري: "مما" بالميم. وهو أجود. أي: ما بلغتني غرضي، وأزلت عني هم كشف هذا الأمر.

                                                                                                                              (فتزود، وحمل شنة) بفتح الشين، وهي القربة البالية الخلقة (له، فيها ماء، وسار حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم) أي: طلبه (ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه) قريشا، فيؤذونه.

                                                                                                                              (حتى أدركه -يعني الليل- فاضطجع، فرآه علي) كرم الله وجهه (فعرف أنه غريب. فلما رآه تبعه) كذا هو في جميع نسخ مسلم: "تبعه".

                                                                                                                              وفي رواية البخاري: "أتبعه" قال عياض: هي أحسن وأشبه [ ص: 600 ] بمساق الكلام. وتكون بإسكان التاء. أي قال له: اتبعني.

                                                                                                                              وفي الأخرى للبخاري: "قال له علي: انطلق إلى المنزل. قال: فانطلقت معه".

                                                                                                                              (فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى أصبح. ثم احتمل قريبته) بضم القاف على التصغير. وفي بعض النسخ: "قربته" بالتكبير. وهي الشنة المذكورة قبله. (وزاده، إلى المسجد. فظل ذلك اليوم فيه، ولا يرى النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم، حتى أمسى. فعاد إلى مضجعه) بكسر الجيم.

                                                                                                                              (فمر به علي رضي الله عنه، فقال: ما آن للرجل أن يعلم منزله؟).

                                                                                                                              وفي بعض النسخ: "ما أنى" وهما لغتان بمعنى: "ما حان".

                                                                                                                              وفي بعضها: "أما" بزيادة ألف الاستفهام.

                                                                                                                              [ ص: 601 ]

                                                                                                                              والمعنى: ألم يجئ وقت أن يكون له منزل معين، يسكنه؟

                                                                                                                              أو أراد دعوته إلى منزله، وأضاف المنزل إليه بملابسة إضافته له فيه.

                                                                                                                              (فأقامه) أي: من مضجعه (فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالثة: فعل مثل ذلك. فأقامه علي رضي الله عنه، معه. ثم قال له: ألا تحدثني: ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني) أي: إلى مقصودي: (فعلت. ففعل، فأخبره. فقال: فإنه حق. وهو رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني. فإني -إن رأيت شيئا أخاف عليك- قمت كأني أريق الماء).

                                                                                                                              وفي رواية للبخاري: "قمت إلى الحائط، كأني أصلح نعلي".

                                                                                                                              ولعله قالهما جميعا.

                                                                                                                              (فإن مضيت فاتبعني، حتى تدخل مدخلي. ففعل) أبو ذر ذلك (فانطلق يقفوه) أي: يتبعه (حتى دخل على النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم، ودخل) أبو ذر (معه، فسمع من قوله، صلى الله عليه) وآله (وسلم. وأسلم مكانه).

                                                                                                                              قال الحافظ (في الفتح): كأنه كان يعرف علامات النبي، صلى الله [ ص: 602 ] عليه وآله وسلم. فلما تحققها: لم يتردد في الإسلام.

                                                                                                                              هكذا في هذه الرواية، ومقتضاها أن التقاء أبي ذر بالنبي، صلى الله عليه وآله وسلم: كان بدلالة علي، رضي الله عنه.

                                                                                                                              وفي رواية عبد الله بن الصامت: "أن أبا ذر لقي النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وأبا بكر -في الطواف بالليل- قال: فلما قضى صلاته، قلت: السلام عليك، يا رسول الله!.. إلخ" وأكثره مغاير لما في "حديث ابن عباس هذا، عن أبي ذر".

                                                                                                                              ويمكن التوفيق بينهما: بأنه لقيه أولا مع علي، ثم لقيه في الطواف، أو بالعكس. وحفظ كل منهما ما لم يحفظ الآخر.

                                                                                                                              وقال القرطبي: في التوفيق بين الروايتين تكلف شديد، ولا سيما أن في حديث ابن الصامت أن أبا ذر أقام ثلاثين لا زاد له. وفي حديث ابن عباس: أنه كان معه زاد، وقربة ماء، إلى غير ذلك.

                                                                                                                              ويحتمل الجمع بأن المراد في حديث ابن عباس: ما تزوده لما خرج من قومه، ففرغ لما أقام بمكة. والقربة التي كانت معه كان فيها الماء حال السفر، فلما أقام بمكة: لم يحتج إلى ملئها. ولم يطرحها. ويؤيده: أنه وقع في رواية أبي قتيبة: "فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد" الحديث.

                                                                                                                              (فقال له [ ص: 603 ] النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم: ارجع إلى قومك) غفار، (فأخبرهم) بشأني. لعل الله أن ينفعهم بك (حتى يأتيك أمري).

                                                                                                                              ولأبي قتيبة: "قال لي: يا أبا ذر! اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك. فإذا بلغك ظهورنا: فأقبل".

                                                                                                                              وإنما أمره بالكتمان؛ خوفا عليه من قريش.

                                                                                                                              (فقال) أبو ذر: (والذي نفسي بيده! لأصرخن) بضم الراء، أي: لأرفعن صوتي (بها) أي: بكلمة التوحيد (بين ظهرانيهم) بفتح النون. أي: في جمعهم. ويقال "بين ظهريهم" أيضا.

                                                                                                                              (فخرج، حتى أتى المسجد الحرام، (فنادى بأعلى صوته: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله". وثار القوم) قريش (إليه فضربوه، حتى أضجعوه على الأرض. وأتى العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنه، فأكب عليه؛ فقال: ويلكم! ألستم تعلمون: أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشام) عليهم؟ (فأنقذه منهم) أي: خلصه من المشركين.

                                                                                                                              [ ص: 604 ]

                                                                                                                              (ثم عاد من الغد لمثلها، وثاروا إليه فضربوه، فأكب عليه العباس، فأنقذه) منهم. ورجع إلى قومه، فأسلم أخوه "أنيس" وأمه، وكثير من قومه.




                                                                                                                              الخدمات العلمية