الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 418 ] ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ( 123 ) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ( 124 ) ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ( 125 ) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ( 126 ) )

قال قتادة : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن [ واتبع ملة إبراهيم حنيفا ] ) الآية . فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان .

وكذا روي عن السدي ، ومسروق ، والضحاك وأبي صالح ، وغيرهم وكذا روى العوفي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : تخاصم أهل الأديان فقال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب ، ونبينا خير الأنبياء . وقال أهل الإنجيل مثل ذلك . وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام . وكتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا . فقضى الله بينهم فقال : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) وخير بين الأديان فقال : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن [ واتبع ملة إبراهيم حنيفا ] ) إلى قوله : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا )

وقال مجاهد : قالت العرب : لن نبعث ولن نعذب . وقالت اليهود والنصارى : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] وقالوا ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) [ البقرة : 80 ] .

والمعنى في هذه الآية : أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ، وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال : " إنه هو المحق " سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان ; ولهذا قال تعالى : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) أي : ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ، بل العبرة بطاعة الله ، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام ; ولهذا قال بعده : ( من يعمل سوءا يجز به ) كقوله ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .

وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير قال : أخبرت أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، كيف الصلاح بعد هذه الآية : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) فكل سوء عملناه جزينا به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " غفر الله لك يا أبا بكر ، ألست تمرض ؟ ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ " قال : بلى . قال : " فهو ما تجزون به " .

[ ص: 419 ]

ورواه سعيد بن منصور ، عن خلف بن خليفة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به . ورواه ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يعلى ، عن أبي خيثمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به . ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري ، عن إسماعيل به .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : سمعت أبا بكر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سوءا يجز به في الدنيا " .

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن هشيم بن جهيمة ، حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد قال : قال عبد الله بن عمر : انظروا المكان الذي به عبد الله بن الزبير مصلوبا ولا تمرن عليه . قال : فسها الغلام ، فإذا ابن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال : يغفر الله لك ثلاثا ، أما والله ما علمتك إلا صواما قواما وصالا للرحم ، أما والله إني لأرجو مع متساوي ما أصبت ألا يعذبك الله بعدها . قال : ثم التفت إلي فقال : سمعت أبا بكر الصديق يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سوءا في الدنيا يجز به " .

ورواه أبو بكر البزار في ، عن الفضل بن سهل ، عن عبد الوهاب بن عطاء ، به مختصرا . وقد قال في مسند ابن الزبير : حدثنا إبراهيم بن المستمر العروفي حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان ، حدثني أبي ، عن جدي حيان بن بسطام ، قال : كنت مع ابن عمر ، فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب ، فقال : رحمك الله أبا خبيب ، سمعت أباك - يعني الزبير - يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سوءا يجز به في الدنيا والأخرى " ثم قال : لا نعلمه يروى عن الزبير إلا من هذا الوجه .

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني مولى ابن سباع قال : سمعت ابن عمر يحدث ، عن أبي بكر الصديق قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر ، هل أقرئك آية نزلت علي ؟ " قال : قلت : بلى يا رسول الله . فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاما في ظهري حتى تمطأت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما لك يا أبا بكر ؟ " قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، وأينا لم يعمل السوء ، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك في [ ص: 420 ] الدنيا حتى تلقوا الله ، وليس لكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة " .

وهكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى ، وعبد بن حميد ، عن روح بن عبادة ، به . ثم قال : وموسى بن عبيدة يضعف ، ومولى ابن سباع مجهول .

[ وقال ابن جرير : حدثنا الغلام ، حدثنا الحسين ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال : لما نزلت قال أبو بكر : يا رسول الله ، جاءت قاصمة الظهر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما هي المصائب في الدنيا " ] .

طريق أخرى عن الصديق : قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري ، حدثنا محمد بن عامر السعدي ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا فضيل بن عياض ، عن سليمان بن مهران ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق قال : قال أبو بكر [ الصديق ] يا رسول الله ، ما أشد هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ) ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء " .

طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور قالا حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي ، حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ عن عائشة ، عن أبي بكر قال : لما نزلت : ( من يعمل سوءا يجز به ) قال أبو بكر : يا رسول الله ، كل ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال : " يا أبا بكر ، أليس يصيبك كذا وكذا ؟ فهو كفارة " .

حديث آخر : قال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن بكر بن سوادة حدثه ، أن يزيد بن أبي يزيد حدثه ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة : أن رجلا تلا هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ) فقال : إنا لنجزى بكل عمل ؟ هلكنا إذا . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " نعم ، يجزى به المؤمن في الدنيا ، في نفسه ، في جسده ، فيما يؤذيه " .

طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سلمة بن بشير ، حدثنا هشيم ، عن أبي عامر ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، إني لأعلم أشد آية في القرآن . فقال : " ما هي يا عائشة ؟ " قلت : ( من يعمل سوءا يجز به ) فقال : " هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها " .

[ ص: 421 ]

رواه ابن جرير من حديث هشيم ، به . ورواه أبو داود ، من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز به .

طريق أخرى : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ) فقالت : ما سألني عن هذه الآية أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عائشة ، هذه مبايعة الله للعبد ، مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة ، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفزع لها ، فيجدها في جيبه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير " .

طريق أخرى : قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا أبو القاسم ، حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن زيد بن المهاجر ، عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ) قال : " إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الفيظ عند الموت " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كثرت ذنوب العبد ، ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه " .

حديث آخر : قال سعيد بن منصور ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن ، سمع محمد بن قيس بن مخرمة ، يخبر أن أبا هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت : ( من يعمل سوءا يجز به ) شق ذلك على المسلمين ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سددوا وقاربوا ، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها ، والنكبة ينكبها " .

وهكذا رواه أحمد ، عن سفيان بن عيينة ، ومسلم والترمذي والنسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ، به ورواه ابن مردويه من حديث روح ومعتمر كلاهما ، عن إبراهيم بن يزيد عن عبد الله بن إبراهيم ، سمعت أبا هريرة يقول : لما نزلت هذه الآية : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) بكينا وحزنا وقلنا : يا رسول الله ، ما أبقت هذه الآية من شيء . قال : " أما والذي نفسي بيده إنها لكما نزلت ، ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا ; فإنه لا يصيب أحدا منكم [ ص: 422 ] في الدنيا إلا كفر الله بها خطيئته ، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه " .

وقال عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد وأبي هريرة : أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن ، حتى الهم يهمه ، إلا كفر به من سيئاته " أخرجاه .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن سعد بن إسحاق ، حدثتني زينب بنت كعب بن عجرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ؟ ما لنا بها ؟ قال : " كفارات " . قال أبي : وإن قلت ؟ قال : " وإن شوكة فما فوقها " قال : فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الوعك حتى يموت ، في ألا يشغله عن حج ولا عمرة ، ولا جهاد في سبيل الله ، ولا صلاة مكتوبة في جماعة ، فما مسه إنسان إلا وجد حره ، حتى مات ، رضي الله عنه . تفرد به أحمد .

حديث آخر : روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : قيل : يا رسول الله : ( من يعمل سوءا يجز به ) ؟ قال : " نعم ، ومن يعمل حسنة يجز بها عشرا . فهلك من غلب واحدته عشرا " .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن : ( من يعمل سوءا يجز به ) قال : الكافر ، ثم قرأ : ( وهل نجازي إلا الكفور ) [ سبأ : 17 ] .

وهكذا روي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير : أنهما فسرا السوء هاهنا بالشرك أيضا .

وقوله : ( ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إلا أن يتوب فيتوب الله عليه . رواه ابن أبي حاتم .

والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال ، لما تقدم من الأحاديث ، وهذا اختيار ابن جرير ، والله أعلم .

وقوله : ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن [ فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ] ) لما ذكر الجزاء على السيئات ، وأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا - وهو الأجود له - وإما في الآخرة - والعياذ بالله من ذلك ، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة ، والصفح والعفو والمسامحة - شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذكرانهم وإناثهم ، بشرط الإيمان ، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير ، وهو : النقرة التي في ظهر نواة التمرة ، وقد تقدم الكلام على الفتيل ، وهو الخيط الذي في شق النواة ، وهذا النقير وهما في نواة التمرة ، وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة ، الثلاثة في القرآن .

[ ص: 423 ]

ثم قال تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ) أخلص العمل لربه ، عز وجل ، فعمل إيمانا واحتسابا ( وهو محسن ) أي : اتبع في عمله ما شرعه الله له ، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما ، أي : يكون خالصا صوابا ، والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون متبعا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة ، وباطنه بالإخلاص ، فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد . فمن فقد الإخلاص كان منافقا ، وهم الذين يراؤون الناس ، ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلا . ومتى جمعهما فهو عمل المؤمنين : ( الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم [ في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ] ) [ الأحقاف : 16 ] ; ولهذا قال تعالى : ( واتبع ملة إبراهيم حنيفا ) وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة ، كما قال تعالى : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي [ والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ] ) [ آل عمران : 68 ] وقال تعالى : ( [ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ] ) [ الأنعام : 161 ] و ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [ النحل : 123 ] والحنيف : هو المائل عن الشرك قصدا ، أي تاركا له عن بصيرة ، ومقبل على الحق بكليته ، لا يصده عنه صاد ، ولا يرده عنه راد .

وقوله : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) وهذا من باب الترغيب في اتباعه ; لأنه إمام يقتدى به ، حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له ، فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة ، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه ، كما وصفه به في قوله : ( وإبراهيم الذي وفى ) [ النجم : 37 ] قال كثيرون من السلف : أي قام بجميع ما أمر به ووفى كل مقام من مقامات العبادة ، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير ، ولا كبير عن صغير . وقال تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن [ قال إني جاعلك للناس إماما ] ) الآية [ البقرة : 124 ] . وقال تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين [ شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم . وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ] ) [ النحل : 120 - 122 ] .

وقال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن عمرو بن ميمون قال : إن معاذا لما قدم اليمن صلى الصبح بهم : فقرأ : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) فقال رجل من القوم : لقد قرت عين أم إبراهيم .

وقد ذكر ابن جرير في تفسيره ، عن بعضهم أنه إنما سماه الله خليلا من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب ، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل - وقال بعضهم : من أهل مصر - ليمتار طعاما لأهله من قبله ، فلم يصب عنده حاجته . فلما قرب من أهله مر بمفازة ذات رمل ، فقال : لو ملأت غرائري من هذا الرمل ، لئلا أغم أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة ، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون . ففعل ذلك ، فتحول ما في غرائره من الرمل دقيقا ، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر ، [ ص: 424 ] فوجدوا دقيقا فعجنوا وخبزوا منه فاستيقظ ، فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا ، فقالوا : من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك فقال : نعم ، هو من خليلي الله . فسماه الله بذلك خليلا .

وفي صحة هذا ووقوعه نظر ، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يصدق ولا يكذب ، وإنما سمي خليل الله لشدة محبة ربه ، عز وجل ، له ، لما قام له من الطاعة التي يحبها ويرضاها ; ولهذا ثبت في الصحيحين ، من حديث أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال : " أما بعد ، أيها الناس ، فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله " .

وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا " .

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم ، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد ، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة ، حدثنا عبيد الله الحنفي ، حدثنا زمعة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه ، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون ، فسمع حديثهم ، وإذا بعضهم يقول : عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله ! وقال آخر : ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما ! وقال آخر : فعيسى روح الله وكلمته ! وقال آخر : آدم اصطفاه الله ! فخرج عليهم فسلم وقال : " قد سمعت كلامكم وتعجبكم أن إبراهيم خليل الله ، وهو كذلك ، وموسى كليمه ، وعيسى روحه وكلمته ، وآدم اصطفاه الله ، وهو كذلك ألا وإني حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع ، وأول مشفع ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة ، فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر " .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها .

وقال قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

رواه الحاكم في مستدركه وقال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه . وكذا روي عن أنس بن مالك ، وغير واحد من الصحابة والتابعين ، والأئمة من السلف والخلف .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن عبدك القزويني ، حدثنا محمد - يعني ابن سعيد بن سابق - [ ص: 425 ] حدثنا عمرو - يعني ابن أبي قيس - عن عاصم ، عن أبي راشد ، عن عبيد بن عمير قال : كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس ، فخرج يوما يلتمس إنسانا يضيفه ، فلم يجد أحدا يضيفه ، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائما ، فقال : يا عبد الله ، ما أدخلك داري بغير إذني ؟ قال : دخلتها بإذن ربها . قال : ومن أنت ؟ قال : أنا ملك الموت ، أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره أن الله قد اتخذه خليلا . قال : من هو ؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينه ثم لا أبرح له جارا حتى يفرق بيننا الموت . قال : ذلك العبد أنت . قال : أنا ؟ قال : نعم . قال : فيم اتخذني الله خليلا ؟ قال : إنك تعطي الناس ولا تسألهم .

وحدثنا أبي ، حدثنا محمود بن خالد السلمي ، حدثنا الوليد ، عن إسحاق بن يسار قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل ، حتى إن كان خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء . وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء .

وقوله : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) أي : الجميع ملكه وعبيده وخلقه ، وهو المتصرف في جميع ذلك ، لا راد لما قضى ، ولا معقب لما حكم ، ولا يسأل عما يفعل ، لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته .

وقوله : ( وكان الله بكل شيء محيطا ) أي : علمه نافذ في جميع ذلك ، لا تخفى عليه خافية من عباده ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى .

التالي السابق


الخدمات العلمية