الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              جماع أبواب الكلام على السهو والنسيان هل يصدر منه أم لا

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي عياض : حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو عبد الله بن الفخار ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا يحيى ، عن مالك ، عن داود بن الحصين عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد أنه قال : سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول : صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ، فسلم في ركعتين ، فقام ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كل ذلك لم يكن .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الرواية الأخرى : ما قصرت وما نسيت الحديث بقصته ، فأخبره بنفي الحالتين ، وأنها لم تكن ، وقد كان أحد ذلك كما قال ذو اليدين : قد كان بعض ذلك يا رسول الله .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : فاعلم- وفقنا الله وإياك- أن للعلماء في ذلك أجوبة ، بعضها بصدد الإنصاف ، ومنها ما هو بنية التعسف والاعتساف ، وها أنا أقول :

                                                                                                                                                                                                                              أما على القول بتجويز الوهم والغلط فيما ليس طريقه من القول البلاغ وهو الذي زيفناه من القولين- فلا اعتراض بهذا الحديث وشبهه .

                                                                                                                                                                                                                              وأما على مذهب من يمنع السهو والنسيان في أفعاله جملة ، ويرى أنه في مثل هذا عامد لصورة النسيان ليسن ، فهو صادق في خبره ، لأنه لم ينس ولا قصرت ، ولكنه على هذا القول تعمد هذا الفعل في هذه الصورة لمن اعتراه مثله ، وهو قول مرغوب عنه ونذكره في موضعه .

                                                                                                                                                                                                                              وأما على إحالة السهو عليه في الأقوال وتجويز السهو عليه فيما ليس طريقه القول- كما سنذكره- ففيه أجوبة ، منها :

                                                                                                                                                                                                                              أن النبي- صلى الله عليه وسلم أخبر عن اعتقاده وضميره ، أما إنكار القصر فحق وصدق باطنا وظاهرا .

                                                                                                                                                                                                                              وأما النسيان فأخبر- صلى الله عليه وسلم- عن اعتقاده ، وأنه لم ينس في ظنه ، فكأنه قصد الخبر بهذا عن ظنه وإن لم ينطق به ، وهذا صدق أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              ووجه ثان : أن قوله : ولم أنس- راجع إلى السلام ، أي إني سلمت قصدا ، وسهوت عن العدد ، أي لم أنسه في نفس السلام ، وهذا محتمل ، وفيه بعد .

                                                                                                                                                                                                                              ووجه ثالث- وهو أبعدهما- ما ذهب إليه بعضهم ، وإن احتمله اللفظ من قوله : كل ذلك لم يكن : أي لم يجتمع القصر والنسيان ، بل كان أحدهما . ومفهوم اللفظ خلافه مع الرواية الأخرى الصحيحة ،

                                                                                                                                                                                                                              وهو قوله : ما قصرت الصلاة وما نسيت . [ ص: 467 ]

                                                                                                                                                                                                                              هذا ما رأيت فيه لأئمتنا ، وكل من هذه الوجوه محتمل للفظ على بعد بعضها وتعسف الآخر منها .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي أبو الفضل رحمه الله : والذي أقول- ويظهر لي أنه أقرب من هذه الوجوه كلها- أن قوله- صلى الله عليه وسلم : لم أنس إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه ، وأنكره على غيره بقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا وكذا ، ولكنه نسي .

                                                                                                                                                                                                                              وبقوله في بعض روايات الحديث الآخر : لست أنسى ، ولكن أنسى . فلما قال له السائل : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ أنكر قصرها كما كان ، ونسيانه هو من قبل نفسه ، وإنه إن كان جرى شيء من ذلك فقد نسي حتى سأل غيره ، فتحقق أنه نسي ، وأجري عليه ذلك ليسن ، فقوله على هذا : لم أنس ولم تقصر ، وكل ذلك لم يكن- صدق وحق ، لم تقصر ، ولم ينس حقيقة ، ولكنه نسي .

                                                                                                                                                                                                                              ووجه آخر استثرته من كلام بعض المشايخ ، وذلك أنه قال : إن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يسهو ولا ينسى ، ولذلك نفى عن نفسه النسيان ، قال : لأن النسيان غفلة وآفة ، والسهو إنما هو شغل بال ، قال : فكأن النبي- صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته ولا يغفل عنها ، وكان يشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة ، شغلا بها لا غفلة عنها .

                                                                                                                                                                                                                              فهذا إن تحقق على هذا المعنى لم يكن في قوله : ما قصرت ولا نسيت خلف في قول .

                                                                                                                                                                                                                              وعندي أن قوله : ما قصرت الصلاة وما نسيت بمعنى الترك الذي هو أحد وجهي النسيان ، أراد- والله أعلم- إني لم أسلم من ركعتين تاركا لإكمال الصلاة ، ولكني نسيت ، ولم يكن من تلقاء نفسي .

                                                                                                                                                                                                                              والدليل على ذلك

                                                                                                                                                                                                                              قوله في الحديث الصحيح : إني لأنسى أو أنسى لأسن .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : وهذه الأحاديث مبنية على السهو في الفعل الذي قررناه ، وحكمة الله فيه ليستن به ، إذ البلاغ بالفعل أجلى منه بالقول ، وأرفع للاحتمال ، وشرطه ألا يقر على السهو ، بل يشعر به ليرتفع الالتباس ، وتظهر فائدة الحكمة فيه كما قدمناه ، فإن النسيان والسهو في الفعل في حقه- صلى الله عليه وسلم- غير مضاد للمعجزة ، ولا قادح في التصديق ،

                                                                                                                                                                                                                              وقد قال- صلى الله عليه وسلم : «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني» .

                                                                                                                                                                                                                              وقال صلى الله عليه وسلم : «رحم الله فلانا ، لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطهن» - ويروى : أنسيتهن .

                                                                                                                                                                                                                              وقال- صلى الله عليه وسلم : «إني لأنسى ، أو أنسى ، لأسن» . [ ص: 468 ]

                                                                                                                                                                                                                              قيل : هذا اللفظ شك من الراوي .

                                                                                                                                                                                                                              وقد روي : «إني لا أنسى ، ولكن أنسى لأسن» .

                                                                                                                                                                                                                              وذهب ابن نافع ، وعيسى بن دينار أنه ليس بشك ، فإن معناه التقسيم ، أي أنسى أنا ، أو ينسيني الله .

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي أبو الوليد الباجي : يحتمل ما قالاه أن يريد : إني أنسى في اليقظة ، وأنسى في النوم ، أو أنسى على سبيل عادة البشر من الذهول عن الشيء والسهو ، وأنسى مع إقبالي عليه وتفرغي له ، فأضاف أحد النسيانين إلى نفسه ، إذ كان له بعض السبب فيه ، ونفى الآخر عن نفسه ، إذ هو فيه كالمضطر .

                                                                                                                                                                                                                              وذهبت طائفة من أصحاب المعاني والكلام على الحديث إلى أن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يسهو في الصلاة ولا ينسى ، لأن النسيان ذهول وغفلة وآفة ، قال : والنبي- صلى الله عليه وسلم منزه عنها ، والسهو شغل ، فكأن النبي- صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته ، ويشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة ، شغلا بها لا غفلة عنها .

                                                                                                                                                                                                                              واحتج بقوله في الرواية الأخرى : إني لا أنسى .

                                                                                                                                                                                                                              وذهبت طائفة إلى منع هذا كله عنه ، وقالوا : إن سهوه عليه السلام كان عمدا وقصدا ليسن .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا قول مرغوب عنه ، متناقض المقاصد ، لا يحلى منه بطائل ، لأنه كيف يكون متعمدا ساهيا في حال . ولا حجة لهم في قولهم : إنه أمر بتعمد صورة النسيان ليسن ، لقوله :

                                                                                                                                                                                                                              إني لأنسى أو أنسى . وقد أثبت أحد الوصفين ، ونفى مناقضة التعمد والقصد ،

                                                                                                                                                                                                                              وقال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، [فإذا نسيت فذكروني] .

                                                                                                                                                                                                                              وقد مال إلى هذا عظيم من المحققين من أئمتنا ، وهو أبو المظفر الإسفرايني ، ولم يرتضه غيره منهم ، ولا أرتضيه ، ولا حجة لهاتين الطائفتين في

                                                                                                                                                                                                                              قوله : إني لا أنسى ، ولكن أنسى ،

                                                                                                                                                                                                                              إذ ليس فيه نفي حكم النسيان بالجملة ، وإنما فيه نفي لفظه وكراهة لقبه ، كقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا ، ولكنه نسي ، أو نفى الغفلة وقلة الاهتمام بأمر الصلاة عن قلبه ، ولكن شغل بها عنها ، ونسي بعضها ببعضها ، كما ترك الصلاة يوم الخندق حتى خرج وقتها ، وشغل بالتحرز من العدو عنها ، فشغل بطاعة عن طاعة .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : إن الذي ترك يوم الخندق أربع صلوات : الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، وبه احتج من ذهب إلى جواز تأخير الصلاة في الخوف ، إذا لم يتمكن من أدائها إلى وقت الأمن ، وهو مذهب الشاميين . [ ص: 469 ]

                                                                                                                                                                                                                              والصحيح أن حكم صلاة الخوف كان بعد هذا ، فهو ناسخ له .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت : فما تقول في نومه- صلى الله عليه وسلم عن الصلاة يوم الوادي ،

                                                                                                                                                                                                                              قال : إن عيني تنامان ولا ينام قلبي .

                                                                                                                                                                                                                              فاعلم أن للعلماء في ذلك أجوبة ، منها : أن المراد بأن هذا حكم قلبه عند نومه وعينيه في غالب الأوقات ، وقد يندر منه غير ذلك ، كما يندر من نومه خلاف عادته .

                                                                                                                                                                                                                              ويصحح هذا التأويل

                                                                                                                                                                                                                              قوله- صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه : إن الله قبض أرواحنا .

                                                                                                                                                                                                                              وقول بلال فيه : ما ألقيت علي نومة مثلها قط ، ولكن مثل هذا إنما يكون منه لأمر يريده الله من إثبات حكم ، وتأسيس سنة ، وإظهار شرع ، كما قال في الحديث الآخر : لو شاء الله لأيقظنا ، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني- أن قلبه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث فيه ، لما روي أنه كان محروسا ، وأنه كان ينام حتى ينفخ ، وحتى يسمع غطيطه ، ثم يصلي ولا يتوضأ .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث ابن عباس المذكور فيه وضوؤه عند قيامه من النوم ، فيه نومه مع أهله ، فلا يمكن الاحتجاج به على وضوئه بمجرد النوم ، إذ لعل ذلك لملامسته الأهل أو لحدث آخر ، فكيف وفي آخر الحديث نفسه : ثم نام حتى سمعت غطيطه ، ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يتوضأ .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : لا ينام قلبه من أجل أنه يوحى إليه في النوم ، وليس في قصة الوادي إلا نوم عينيه عن رؤية الشمس . وليس هذا من فعل القلب ،

                                                                                                                                                                                                                              وقد قال- صلى الله عليه وسلم : إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا [ ص: 470 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية