الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 235 ] مسألة :

                                                                                                                                                                                          فمن أصاب بدنه أو ثيابه أو مصلاه شيء فرض اجتنابه بعد أن كبر سالما في كل ما ذكرنا مما أصابه بعد ذلك - : فإن علم بذلك : أزال الثوب - وإن بقي عريانا - ما لم يؤذه البرد ، وزال عن ذلك المكان ; وأزالها عن بدنه بما أمر أن يزيلها به ، وتمادى على صلاته وأجزأه ولا شيء عليه غير ذلك .

                                                                                                                                                                                          فإن نسي حتى عمل عملا مفترضا عليه من صلاته ألغي ، وأتم الصلاة ، وأتى بذلك العمل كما أمر ، ثم يسجد للسهو ، وإن كان ذلك بعد أن سلم ، ما لم تنتقض طهارته ; فإن انتقضت أعاد الصلاة متى ذكر .

                                                                                                                                                                                          فإن لم يصبه ذلك إلا في مكان من صلاته لو لم يأت به لم تبطل به صلاته مثل قراءة السورة التي مع أم القرآن ، أو ما زاد على الطمأنينة في الركوع والسجود ، والجلوس بين السجدتين ، والرفع من الركوع ، والجلوس بعد التشهد - : فصلاته تامة ; وليس عليه إلا سجود السهو فقط ؟ فإن تعمد ما ذكرنا : بطلت صلاته ; وكان كمن لم يصل ، ولا فرق ، لا يقدر على الصلاة إلا في وقتها ؟ فصح الآن أن الناسي يعيد أبدا ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من نسي صلاة أو نام عنها فيصلها إذا ذكرها } ؟ .

                                                                                                                                                                                          والناسي : هو الذي علم الشيء ثم نسيه ، وبعض الصلاة : صلاة بنص حكم اللغة والضرورة .

                                                                                                                                                                                          وهكذا الحكم فيمن نسي الطهارة ، أو بعض أعضائه ، أو نسي ستر عورته ؟ فإن ابتدأ صلاته كذلك أعادها أبدا .

                                                                                                                                                                                          وصح : أن العامد لا يقدر على الصلاة إلا في وقتها ; وكل ما ذكرنا في ذلك سواء وأما الجاهل : وهو الذي لا يعلم الشيء إلا في صلاته أو بعدها ؟ كمن كان في ثيابه ، أو بدنه ، أو في مكانه - : شيء فرض اجتنابه لم يعلم به ؟ فإنه يعيد كل ما صلى كذلك في الوقت كذلك [ ص: 236 ] وكذلك من انكشفت عورته ، وهو لا يرى .

                                                                                                                                                                                          وكذلك من جهل فرضا من فروض طهارته ، أو صلاته ثم علمها - : فإن هؤلاء لا إعادة عليهم إلا في الوقت فقط ، لا بعد الوقت ؟ برهان ذلك - : أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا في أرض الحبشة وغيرها ، والفرائض تنزل ; كتحويل القبلة ، والزيادة في عددها ، وغير ذلك ؟ فلم يأمرهم عليه السلام بإعادة شيء من ذلك ; إذ بلغه ذلك ، وأمر الذي رآه لم يتم صلاته أن يعيدها .

                                                                                                                                                                                          فصح بذلك - : أن يأتي بما جهل من كل ما ذكرنا إذا علمه ; ما دام الوقت قائما فقط ؟ وأما المكره ، والعاجز ; لعلة أو ضرورة ؟ فإنه في كل ما ذكرنا - : إن زال الإكراه ، أو الضرورة بعد الصلاة - : فقد تمت صلاته ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } ؟ .

                                                                                                                                                                                          وإن زال ذلك في الصلاة بنى على ما مضى من صلاته ; فأتمها كما يقدر واعتد بما عمل منها قبل أن يقدر ، ولا سجود سهو في ذلك - ، وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : ما ذكرناه قبل : إن كان عمل مأمور به ، فهو فيها جائز - كثر أو قل ، وإزالة ما افترض على المرء اجتنابه في الصلاة مأمور به فيها ; فهو جائز في الصلاة ؟ وأما قولنا : وإن بقي عريانا ; فلأنه قد اجتمع عليه فرضان - : أحدهما : ستر العورة ; والثاني : اجتناب ما أمر باجتنابه ؟ ولا بد له من أحدهما .

                                                                                                                                                                                          فإن صلى غير مجتنب ; لما أمر باجتنابه ؟ فقد تعمد في صلاته عملا محرما عليه ; فلم يصل كما أمر ; فلا صلاة له ؟ .

                                                                                                                                                                                          وإذا لم يجد ثوبا أمر بالاستتار بمثله ; فهو غير قادر على الاستتار ; ولا حرج على المرء فيما لا يقدر عليه [ ص: 237 ] قال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } ، وليس المرء مضطرا إلى لباس ثوب يقدر على خلعه ، ولا إلى البقاء في مكان يقدر على مفارقته ، وهو مضطر إلى التعري إذا لم يجد ما أبيح له لباسه ; فإن خشي البرد فهو حينئذ مضطر إلى ما يطرد به البرد عن نفسه ; فيصلي به ، ولا شيء عليه ; لأنه مباح له حينئذ ؟ وأما قولنا : إن نسي حتى عمل عملا مفترضا عليه في صلاته ألغاه ، وأتم الصلاة وأتى بذلك العمل كما أمر ، وإن كان بعد أن سلم ، ما لم تنتقض طهارته ؟ .

                                                                                                                                                                                          فلما قد ذكرناه من سقوط ما نسيه المرء في صلاته ، وأن ذلك لا يبطل صلاته ؟ ; ولقول الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } .

                                                                                                                                                                                          ولما سنذكره من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم { من سها في صلاته فزاد أو نقص } بأن يتم صلاته ويسجد للسهو ; وهذا قد زاد في صلاته ساهيا ما لو تعمده لبطلت صلاته .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : إن انتقضت طهارته أعادها أبدا متى ذكر ؟ فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد ذكرناه { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها } ، وبعض الصلاة صلاة عليه ففرض أن يصليها ، وأن يأتي بما نسي ، وبما لا يجزئ - إذا ما نسي - إلا به ، من وضوء أو غسل ، أو ابتداء الصلاة على ترتيبها ، إلى أن يتم ما نسي من صلاته إلا به .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : إن لم يصبه ذلك إلا في مكان من صلاته لو تعمد تركه لم تبطل صلاته بذلك ، إلى آخر كلامنا ; فلأنه قد وفى جميع أعمال صلاته سالمة كما أمر ; وكانت تلك الأعمال الزائدة ، وإن كانت الصلاة جائزة دونها - : فإنها في جملة الصلاة ، وفي حال لو تعمد فيها ما تبطل به الصلاة لبطلت صلاته ، وكان منه فيها ما كان ناسيا فزاد في صلاته [ ص: 238 ] عملا بالسهو لا يجوز له فليس عليه إلا سجود السهو ، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مما سنذكره في باب سجود السهو إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه في الصلاة للقذر الذي كان فيهما ، وعن الحسن إذا رأيت في ثوبك قذرا فضعه عنك وامض في صلاتك ، وقد أجاز أبو حنيفة ، ومالك : غسل الرعاف في الصلاة ؟ فأما الصلاة بالنجاسة : فإن مالكا قال : لا يعيد العامد لذلك والناسي إلا في الوقت ؟ قال علي : وهذا خطأ ; لأنه لا يخلو من أن يكون أدى الصلاة التي أمر بها كما أمر ، أو لم يؤدها كما أمر ; فإن كان أداها كما أمر فلا يحل له أن يصلي في يوم واحد ظهرين ، ولا معنى لإعادته صلاة قد صلاها ؟ ، وإن كان لم يؤدها كما أمر فمن قوله أن يصلي من لم يصل أبدا ; فظهر بطلان هذا القول ؟ .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإنه يقال لهم : أخبرونا عن الصلاة التي تأمرونه بأن يأتي بها في الوقت ولا تأمرونه بها بعد الوقت : أفرض هي عندكم أم نافلة ؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟ وبأي نية يصليها ؟ أبنية أنها الفرض اللازم له في ذلك الوقت أم بنية التطوع ؟ أم بلا نية ، لا لفرض ولا لتطوع ؟ فإن قلتم : هي فرض ولا يصليها إلا بنية الفرض ; فمن أصلكم الذي لم تختلفوا فيه : أن الفرض يصلى أبدا ، ولا يسقط بخروج الوقت فيه ، فهذا تناقض وهدم لأصلكم .

                                                                                                                                                                                          وإن كانت تطوعا وتأمرونه بأن يدخل فيها بنية التطوع فإن التطوع لا يجزئ بدل الفرض في الدنيا ، ولا يحل لأحد أن يتعمد ترك الفرض ويصلي التطوع عوضا من الفرض ; ولا يحل لأحد أن يفتيه بذلك بلا خلاف من أحد ; بل هو خروج الكفر بلا شك وإن قلتم : لا يصليها بنية فرض ولا تطوع ؟ كان هذا باطلا متيقنا ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } فهذا لا عمل له ، إذ لا نية له ، ولا شيء له ، فقد أمرتموه بالباطل الذي لا يحل وأما الشافعي فإنه قال : يعيد أبدا في العمد ، والنسيان قال علي : وهذا خطأ ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما [ ص: 239 ] استكرهوا عليه } ; ولقول الله تعالى : { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : من كانت النجاسة في موضع قدميه في الصلاة وكانت أكثر من الدرهم البغلي : - أي نجاسة : بطلت صلاته عامدا كان أو ناسيا ؟ فإن كانت قدر الدرهم البغلي فأقل ; فصلاته تامة في العمد ; والنسيان ؟ فإن كانت أكثر من قدر الدرهم البغلي ، وكانت في موضع وضع يديه ، أو في موضع وضع ركبتيه ، أو حذاء إبطيه : فصلاته تامة في العمد ، والنسيان واختلف عنه إذا كانت في موضع وقوع جبهته في السجود .

                                                                                                                                                                                          فمرة قال : صلاته تامة في العمد ، والنسيان ، ومرة قال : صلاته باطلة في العمد ، والنسيان ; وبه يقول زفر .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو يوسف كذلك في كل ما ذكرنا ، إلا أنه قال : إن كانت في موضع سجوده : فسدت تلك السجدة - وحدها خاصة - وكأنه لم يسجدها ؟ وإن سجدها ما دام في صلاته تمت صلاته - وإن لم يسجدها حتى أتم صلاته بطلت صلاته كلها ؟ وكانت حجتهم في هذا أسقط من قولهم ; وهو أنهم قالوا : لو لم يضع يديه ولا ركبتيه في السجود لم يضر ذلك صلاته شيئا بخلاف قدميه قال علي : وهذا احتجاج للباطل بأشنع ما يكون من الباطل وإنما هو استخفاف بالصلاة ، ويلزم على أحد قوليه أن تتم صلاته ، وإن لم يضع جبهته بالأرض لغير عذر .

                                                                                                                                                                                          قال أبو حنيفة : ومن صلى وفي ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم إلا أنها في موضع يسجيه ، وليس على شيء من جسمه ، فإن كان إذا تحرك في صلاته لقيام أو ركوع أو سجود تحركت النجاسة - : بطلت صلاته ، وإلا فلا ؟ وقال أبو يوسف : المصلي المبطن بمنزلة ثوب واحد ، إن كان في الباطنة أكثر من قدر الدرهم غير نافذة إلى الوجه بطلت الصلاة .

                                                                                                                                                                                          وقال محمد : لا تبطل ، وهما ثوبان قال أبو محمد : وهذه أقوال ينبغي حمد الله تعالى على السلامة منها ، ولا مزيد ، [ ص: 240 ] ولا سلف لهم في شيء منها ثم العجب قولهم لمن أخذ بأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم الذين يقرون بصحة نقله وبيانه : قولوا لنا : من قال بهذا قبلكم ؟ فيا للمسلمين أيعنف من أخذ بالقرآن والسنة ، التي أجمع المسلمون على وجوب طاعتهما ، حتى يأتي باسم من قال بذلك ؟ ولا يعنف من قال برأيه - مبتدئا دون موافق من السلف - مثل هذه الأقوال الفاسدة المتناقضة ؟ وحسبنا الله ، ونعم الوكيل - وله الحمد على هدايته لنا وتوفيقه إيانا ؟

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية