[ ص: 111 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا )
اعلم أن المقصود : اضرب مثلا آخر يدل على
nindex.php?page=treesubj&link=29497_28902_19793حقارة الدنيا ، وقلة بقائها والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45واضرب لهم ) أي لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45مثل الحياة الدنيا ) ثم ذكر المثل فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) وحينئذ يربو ذلك النبات ويهتز ويحسن منظره كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) ( الحج : 5 ) ثم إذا انقطع ذلك مدة جف ذلك النبات وصار هشيما ، وهو النبت المتكسر المتفتت ، ومنه قوله : هشمت أنفه وهشمت الثريد ، وأنشد :
عمرو الذي هشم الثريد لأهله ورجال مكة مسنتون عجاف
وإذا صار النبات كذلك طيرته الرياح وذهبت بتلك الأجزاء إلى سائر الجوانب : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45وكان الله على كل شيء مقتدرا ) بتكوينه أولا ، وتنميته وسطا ، وإبطاله آخرا ، وأحوال الدنيا أيضا كذلك تظهر أولا في غاية الحسن والنضارة ، ثم تتزايد قليلا قليلا ، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الهلاك والفناء ؛ ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به ، والباء في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45فاختلط به نبات الأرض ) فيه وجوه :
الأول : التقدير فاختلط بعض أنواع النبات بسائر الأنواع بسبب هذا الماء ، وذلك لأن عند نزول المطر يقوى النبات ويختلط بعضه بالبعض ويشتبك بعضه بالبعض ، ويصير في المنظر في غاية الحسن والزينة .
والثاني : فاختلط ذلك الماء بالنبات واختلط ذلك النبات بالماء حتى روي ورف رفيفا ، وكان حق اللفظ على هذا التفسير : فاختلط بنبات الأرض ؛ ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منها بصفة صاحبه .
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا )
لما بين تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بين تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل ، وسنعقد منه قياس الإنتاج ، وهو أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا وكل ما كان من زينة الدنيا ، فهو سريع الانقضاء والانقراض ينتج إنتاجا بديهيا أن المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض ، ومن المقتضى البديهي أن ما كان كذلك ، فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له في نظره وزنا ، فهذا برهان باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد ، ثم ذكر ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) وتقرير هذا الدليل أن
nindex.php?page=treesubj&link=19793_29497خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية ، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي ، وهذا معلوم بالضرورة ، لا سيما إذا ثبت أن خيرات الدنيا خسيسة حقيرة ، وأن خيرات الآخرة عالية رفيعة ، لأن خيرات
[ ص: 112 ] الدنيا حسية وخيرات الآخرة عقلية ، والعقلية أشرف من الحسية بكثير بالدلائل المذكورة في تفسير قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35الله نور السماوات والأرض ) ( النور : 35 ) في بيان أن الإدراكات العقلية أفضل من الحسية ، وإذا كان كذلك كان مجموع السعادات العقلية والحسية هي السعادات الأخروية ، فوجب أن تكون أفضل من السعادات الحسية الدنيوية ، والله أعلم .
والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالا :
قيل : إنها قولنا : "سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر" وللشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي -رحمه الله- في تفسير هذه الكلمات وجه لطيف ، فقال : روي أن
nindex.php?page=treesubj&link=33142_30495من قال : سبحان الله حصل له من الثواب عشر مرات ، فإذا قال : والحمد لله صارت عشرين ، فإذا قال : ولا إله إلا الله صارت ثلاثين ، فإذا قال : والله أكبر صارت أربعين .
قال : وتحقيق القول فيه : أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته ، فإذا قال : سبحان الله فقد عرف كونه سبحانه منزها عن كل ما لا ينبغي ، فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة ، فإذا قال مع ذلك : والحمد لله فقد أقر بأن الحق سبحانه مع كونه منزها عن كل ما لا ينبغي ، فهو المبدأ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال ، فقد تضاعفت درجات المعرفة ، فلا جرم قلنا : تضاعف الثواب ، فإذا قال مع ذلك : ولا إله إلا الله ، فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي ، فهو المبدأ لكل ما ينبغي وليس في الوجود موجود ، هكذا إلا الواحد ، فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة ، فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة ، فإذا قال : والله أكبر معناه أنه أكبر وأعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله ، فقد صارت مراتب المعرفة أربعة ، لا جرم صارت درجات الثواب أربعة .
والقول الثاني : أن الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس .
والقول الثالث : أنها الطيب من القول كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=24وهدوا إلى الطيب من القول ) ( الحج : 24 ) .
والقول الرابع : أن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بمعرفة الله وبمحبته وخدمته ، فهو الباقيات الصالحات ، وكل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك ، وذلك : أن كل ما سوى الحق سبحانه ، فهو فان لذاته هالك لذاته ، فكان الاشتغال به والالتفات إليه عملا باطلا وسعيا ضائعا ، أما الحق لذاته فهو الباقي لا يقبل الزوال لا جرم كان الاشتغال بمعرفة الله ومحبته وطاعته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولا يفنى .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) أي كل عمل أريد به وجه الله ، فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب ، وما يتعلق به من الأمل يكون خيرا وأفضل ؛ لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة .
[ ص: 111 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا )
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ : اضْرِبْ مَثَلًا آخَرَ يَدُلُّ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=29497_28902_19793حَقَارَةِ الدُّنْيَا ، وَقِلَّةِ بَقَائِهَا وَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45وَاضْرِبْ لَهُمْ ) أَيْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ) وَحِينَئِذٍ يَرْبُو ذَلِكَ النَّبَاتُ وَيَهْتَزُّ وَيَحْسُنُ مَنْظَرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) ( الْحَجِّ : 5 ) ثُمَّ إِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ مُدَّةً جَفَّ ذَلِكَ النَّبَاتُ وَصَارَ هَشِيمًا ، وَهُوَ النَّبْتُ الْمُتَكَسِّرُ الْمُتَفَتِّتُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : هَشَّمْتُ أَنْفَهُ وَهَشَّمْتُ الثَّرِيدَ ، وَأَنْشَدَ :
عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِأَهْلِهِ وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
وَإِذَا صَارَ النَّبَاتُ كَذَلِكَ طَيَّرَتْهُ الرِّيَاحُ وَذَهَبَتْ بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ إِلَى سَائِرِ الْجَوَانِبِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ) بِتَكْوِينِهِ أَوَّلًا ، وَتَنْمِيَتِهِ وَسَطًا ، وَإِبْطَالِهِ آخِرًا ، وَأَحْوَالُ الدُّنْيَا أَيْضًا كَذَلِكَ تَظْهَرُ أَوَّلًا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالنَّضَارَةِ ، ثُمَّ تَتَزَايَدُ قَلِيلًا قَلِيلًا ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِي الِانْحِطَاطِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ ؛ وَمِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ لَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَبْتَهِجَ بِهِ ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ) فِيهِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : التَّقْدِيرُ فَاخْتَلَطَ بَعْضُ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ بِسَائِرِ الْأَنْوَاعِ بِسَبَبِ هَذَا الْمَاءِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ يَقْوَى النَّبَاتُ وَيَخْتَلِطُ بَعْضُهُ بِالْبَعْضِ وَيَشْتَبِكُ بَعْضُهُ بِالْبَعْضِ ، وَيَصِيرُ فِي الْمَنْظَرِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالزِّينَةِ .
وَالثَّانِي : فَاخْتَلَطَ ذَلِكَ الْمَاءُ بِالنَّبَاتِ وَاخْتَلَطَ ذَلِكَ النَّبَاتُ بِالْمَاءِ حَتَّى رَوِيَ وَرَفَّ رَفِيفًا ، وَكَانَ حَقُّ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ : فَاخْتَلَطَ بِنَبَاتِ الْأَرْضِ ؛ وَوَجْهُ صِحَّتِهِ أَنَّ كُلَّ مُخْتَلِطَيْنِ مَوْصُوفٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصِفَةِ صَاحِبِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا )
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الدُّنْيَا سَرِيعَةُ الِانْقِرَاضِ وَالِانْقِضَاءِ مُشْرِفَةٌ عَلَى الزَّوَالِ وَالْبَوَارِ وَالْفَنَاءِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَالْمَقْصُودُ إِدْخَالُ هَذَا الْجُزْءِ تَحْتَ ذَلِكَ الْكُلِّ ، وَسَنَعْقِدُ مِنْهُ قِيَاسَ الْإِنْتَاجِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا ، فَهُوَ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ يُنْتِجُ إِنْتَاجًا بَدِيهِيًّا أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ سَرِيعَةُ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ ، وَمِنَ الْمُقْتَضَى الْبَدِيهِيِّ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَقْبُحُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِهِ أَوْ يَفْرَحَ بِسَبَبِهِ أَوْ يُقِيمَ لَهُ فِي نَظَرِهِ وَزْنًا ، فَهَذَا بُرْهَانٌ بَاهِرٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ عَلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ) وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19793_29497خَيْرَاتِ الدُّنْيَا مُنْقَرِضَةٌ مُنْقَضِيَةٌ وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ ، وَالدَّائِمُ الْبَاقِي خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَرِضِ الْمُنْقَضِي ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ ، لَا سِيَّمَا إِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا خَسِيسَةٌ حَقِيرَةٌ ، وَأَنَّ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ عَالِيَةٌ رَفِيعَةٌ ، لِأَنَّ خَيْرَاتِ
[ ص: 112 ] الدُّنْيَا حِسِّيَّةٌ وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ عَقْلِيَّةٌ ، وَالْعَقْلِيَّةُ أَشْرَفُ مِنَ الْحِسِّيَّةِ بِكَثِيرٍ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=35اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ( النُّورِ : 35 ) فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِدْرَاكَاتِ الْعَقْلِيَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْحِسِّيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَجْمُوعُ السَّعَادَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ هِيَ السَّعَادَاتُ الْأُخْرَوِيَّةُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ السَّعَادَاتِ الْحِسِّيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ أَقْوَالًا :
قِيلَ : إِنَّهَا قَوْلُنَا : "سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ" وَلِلشَّيْخِ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَجْهٌ لَطِيفٌ ، فَقَالَ : رُوِيَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=33142_30495مَنْ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ حَصَلَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ عَشْرُ مَرَّاتٍ ، فَإِذَا قَالَ : وَالْحَمْدُ لِلَّهِ صَارَتْ عِشْرِينَ ، فَإِذَا قَالَ : وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ صَارَتْ ثَلَاثِينَ ، فَإِذَا قَالَ : وَاللَّهُ أَكْبَرُ صَارَتْ أَرْبَعِينَ .
قَالَ : وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ : أَنَّ أَعْظَمَ مَرَاتِبِ الثَّوَابِ هُوَ الِاسْتِغْرَاقُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَفِي مَحَبَّتِهِ ، فَإِذَا قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ فَقَدْ عَرَفَ كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي ، فَحُصُولُ هَذَا الْعِرْفَانِ سَعَادَةٌ عَظِيمَةٌ وَبَهْجَةٌ كَامِلَةٌ ، فَإِذَا قَالَ مَعَ ذَلِكَ : وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ مَعَ كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي ، فَهُوَ الْمَبْدَأُ لِإِفَادَةِ كُلِّ مَا يَنْبَغِي وَلِإِفَاضَةِ كُلِّ خَيْرٍ وَكَمَالٍ ، فَقَدْ تَضَاعَفَتْ دَرَجَاتُ الْمَعْرِفَةِ ، فَلَا جَرَمَ قُلْنَا : تَضَاعَفَ الثَّوَابُ ، فَإِذَا قَالَ مَعَ ذَلِكَ : وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الَّذِي تَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي ، فَهُوَ الْمَبْدَأُ لِكُلِّ مَا يَنْبَغِي وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَوْجُودٌ ، هَكَذَا إِلَّا الْوَاحِدَ ، فَقَدْ صَارَتْ مَرَاتِبُ الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةً ، فَلَا جَرَمَ صَارَتْ دَرَجَاتُ الثَّوَابِ ثَلَاثَةً ، فَإِذَا قَالَ : وَاللَّهُ أَكْبَرُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَصِلَ الْعَقْلُ إِلَى كُنْهِ كِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ ، فَقَدْ صَارَتْ مَرَاتِبُ الْمَعْرِفَةِ أَرْبَعَةً ، لَا جَرَمَ صَارَتْ دَرَجَاتُ الثَّوَابِ أَرْبَعَةً .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا الطَّيِّبُ مِنَ الْقَوْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=24وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) ( الْحَجِّ : 24 ) .
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ وَقَوْلٍ دَعَاكَ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَخِدْمَتِهِ ، فَهُوَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ، وَكُلُّ عَمَلٍ وَقَوْلٍ دَعَاكَ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ : أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ ، فَهُوَ فَانٍ لِذَاتِهِ هَالِكٌ لِذَاتِهِ ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ عَمَلًا بَاطِلًا وَسَعْيًا ضَائِعًا ، أَمَّا الْحَقُّ لِذَاتِهِ فَهُوَ الْبَاقِي لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ لَا جَرَمَ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ هُوَ الَّذِي يَبْقَى بَقَاءً لَا يَزُولُ وَلَا يَفْنَى .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ) أَيْ كُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ ، فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَمَلِ يَكُونُ خَيْرًا وَأَفْضَلَ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ يُؤَمِّلُ فِي الدُّنْيَا ثَوَابَ اللَّهِ وَنَصِيبَهُ فِي الْآخِرَةِ .