الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4124 ) فصل : ظاهر كلام أحمد ، أن المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة ، أومأ إليه في رواية الأثرم ، وسئل عن الأكار يخرج نفسه من غير أن يخرجه صاحب الضيعة ، فلم يمنعه من ذلك . ذكره الشيخ أبو عبد الله بن حامد ، وهو قول بعض أصحاب الحديث . وقال بعض أصحابنا : هو عقد لازم . وهو قول أكثر الفقهاء ; لأنه عقد معاوضة ، فكان لازما ، كالإجارة ، ولأنه لو كان جائزا ، جاز لرب المال فسخه إذا أدركت الثمرة ، فيسقط حق العامل ، فيستضر . ولنا ما روى مسلم بإسناده عن ابن عمر ، { أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بخيبر ، على أن يعملوها ، ويكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نقركم على ذلك ما شئنا }

                                                                                                                                            ولو كان لازما لم يجز بغير تقدير مدة ، ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه قدر لهم ذلك بمدة ، ولو قدر لم يترك نقله ، لأن هذا مما يحتاج إليه ، فلا يجوز الإخلال بنقله ، وعمر رضي الله عنه أجلاهم من الأرض وأخرجهم من خيبر ، ولو كانت لهم مدة مقدرة ، لم يجز إخراجهم منها . ولأنه عقد على جزء من نماء المال ، فكان جائزا ، كالمضاربة ، أو عقد على المال بجزء من نمائه ، أشبه المضاربة ، وفارق الإجارة ; لأنها بيع ، فكانت لازمة ، كبيع الأعيان ، ولأن عوضها مقدر معلوم ، فأشبهت البيع . وقياسهم ينتقض بالمضاربة ، وهي أشبه بالمساقاة من الإجارة ، فقياسها عليها أولى

                                                                                                                                            وقولهم : إنه يفضي إلى أن رب المال يفسخ بعد إدراك الثمرة . قلنا : إذا ظهرت الثمرة ، فهي تظهر على ملكهما ، فلا يسقط حق العامل منها بفسخ ولا غيره ، [ ص: 234 ] كما لو فسخ المضاربة بعد ظهور الربح . فعلى هذا لا يفتقر إلى ضرب مدة ، ولذلك لم يضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه رضي الله عنهم ، لأهل خيبر مدة معلومة حين عاملوهم . ولأنه عقد جائز ، فلم يفتقر إلى ضرب مدة كالمضاربة ، وسائر العقود الجائزة . ومتى فسخ أحدهما بعد ظهور الثمرة ، فهي بينهما على ما شرطاه ، وعلى العامل تمام العمل ، كما يلزم المضارب بيع العروض إذا فسخت المضاربة بعد ظهور الربح ، وإن فسخ العامل قبل ذلك فلا شيء له ; لأنه رضي بإسقاط حقه ، فصار كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح ، وعامل الجعالة إذا فسخ قبل إتمام عمله

                                                                                                                                            وإن فسخ رب المال قبل ظهور الثمرة ، فعليه أجر المثل للعامل ; لأنه منعه إتمام عمله الذي يستحق به العوض ، فأشبه ما لو فسخ الجاعل قبل إتمام عمل الجعالة . وفارق رب المال في المضاربة إذا فسخها قبل ظهور الربح ; لأن عمل هذا مفض إلى ظهور الثمرة غالبا ، فلولا الفسخ لظهرت الثمرة ، فملك نصيبه منها ، وقد قطع ذلك بفسخه ، فأشبه فسخ الجعالة ، بخلاف المضاربة ، فإنه لا يعلم إفضاؤها إلى الربح ، ولأن الثمرة إذا ظهرت في الشجر ، كان العمل عليها في الابتداء من أسباب ظهورها ، والربح إذا ظهر في المضاربة قد لا يكون للعمل الأول فيه أثر أصلا . فأما إن قلنا : إنه عقد لازم . فلا يصح إلا على مدة معلومة . وبهذا قال الشافعي

                                                                                                                                            وقال أبو ثور : تصح من غير ذكر مدة ، ويقع على سنة واحدة . وأجازه بعض أهل الكوفة استحسانا ; لأنه لما شرط له جزءا من الثمرة ، كان ذلك دليلا على أنه أراد مدة تحصل الثمرة فيها . ولنا أنه عقد لازم ، فوجب تقديره بمدة ، كالإجارة ، ولأن المساقاة أشبه بالإجارة ، لأنها تقتضي العمل على العين مع بقائها ، ولأنها إذا وقعت مطلقة ، لم يمكن حملها على إطلاقها مع لزومها ; لأنه يفضي إلى أن العامل يستبد بالشجر كل مدته ، فيصير كالمالك ، ولا يمكن تقديره بالسنة ; لأنه تحكم ، وقد تكمل الثمرة في أقل من السنة ، فعلى هذا لا تتقدر أكثر المدة ، بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها وإن طالت

                                                                                                                                            وقد قيل : لا يجوز أكثر من ثلاثين سنة . وهذا تحكم ، وتوقيت لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع . فأما أقل المدة ، فيتقدر بمدة تكمل الثمرة فيها ، فلا يجوز على أقل منها ; لأن المقصود أن يشتركا في الثمرة ، ولا يوجد في أقل من هذه المدة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية