الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن اشترى للتجارة عرضا لا تجب فيه الزكاة ، لم يخل إما أن يشتري بعرض أو نقد ، فإن اشتراه بنقد نظرت ، فإن كان نصابا جعل ابتداء الحول من حين ملك النصاب من النقد ، ويبني حول العرض الذي اشتراه عليه ; لأن النصاب هو الثمن ، وكان ظاهرا فصار في ثمن السلعة كامنا ، فبنى حوله عليه ، كما لو كان عينا فأقرضه فصار دينا ، وإن اشتراه بدون النصاب انعقد الحول عليه من حين الشراء ، سواء أكانت قيمة العرض نصابا أو أقل .

                                      وقال أبو العباس : لا ينعقد الحول إلا أن يكون قيمته من أول الحول إلى آخره نصابا كسائر الزكوات ، والمنصوص في الأم : هو الأول ; لأن نصاب زكاة التجارة يتعلق بالقيمة ، وتقويم العرض في كل ساعة يشق ، فلم يعتبر إلا في حال الوجوب ، ويخالف سائر الزكوات ، فإن نصابها في عينها فلم يشق اعتباره في جميع الحول ، وإن اشتراه بعرض للقنية نظرت ، فإن كان من غير أموال الزكاة انعقد الحول عليه من يوم الشراء ، وإن اشتراه بنصاب من السائمة ففيه وجهان .

                                      قال أبو سعيد الإصطخري : يبنى حول التجارة على حول السائمة ; لأن الشافعي رحمه الله قال في المختصر : ولو اشترى عرضا للتجارة بدراهم أو دنانير أو بشيء تجب فيه الصدقة لم يقوم عليه حتى يحول عليه الحول من يوم ملك ثمن العرض ، والدليل عليه أنه ملكه بما يجزي في الحول ، فبني حوله على حوله ، كما لو اشتراه بنصاب من الأثمان ، وقال أكثر أصحابنا : لا يبنى على حول السائمة ، وتأولوا قوله في " المختصر " ، والدليل عليه : أن الزكاة تتعلق بقيمة العرض ، والماشية ليست بقيمة فلم يبن حوله على حولها ، ويخالف الأثمان ; لأنها قيمة ، وإنما كانت عينا ظاهرة فخفيت كالعين إذا صارت دينا ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) النصاب والحول معتبران في زكاة التجارة بلا خلاف ، لكن في وقت اعتباره النصاب ثلاثة أوجه ، وسماها إمام الحرمين والغزالي : أقوالا ، والصحيح المشهور : أنه أوجه ، لكن الصحيح منها [ ص: 14 ] منصوص ، والآخران مخرجان ( أحدهما ) وهو الصحيح عند جميع الأصحاب ، وهو نصه في " الأم " : أنه يعتبر في آخر الحول فقط ; لأنه يتعلق بالقيمة ، وتقويم العرض في كل وقت يشق ، فاعتبر حال الوجوب وهو آخر الحول ، بخلاف سائر الزكوات ; لأن نصابها من عينها فلا يشق اعتباره .

                                      ( والثاني ) وبه قال أبو العباس بن سريج : في جميع الحول من أوله إلى آخره ومتى نقص النصاب في لحظة منه انقطع الحول ، قياسا على زكاة الماشية والنقد .

                                      ( والثالث ) : يعتبر النصاب في أول الحول وآخره دون ما بينهما ، فإذا كان نصابا في الطرفين وجبت الزكاة ولا يضر نقصه بينهما ، وهذا الوجه حكاه الشيخ أبو حامد والمحاملي والماوردي والشاشي عن ابن سريج ، ووافق المصنف على حكاية الثاني عن ابن سريج أيضا ابن الصباغ ، وسبقهما به القاضي أبو الطيب وغيره ، فإذا قلنا بالصحيح فاشترى عرضا للتجارة بشيء يسير جدا ، انعقد الحول ، فإذا بلغ نصابا في آخر الحول وجبت الزكاة .

                                      ولو كان عرض التجارة دون النصاب فباعه بسلعة أخرى دون نصاب في أثناء الحول ، فالمذهب : أن لا ينقطع الحول . وحكى إمام الحرمين فيه خلافا ، سنذكره في أول الآتي إن شاء الله تعالى .



                                      وأما ابتداء الحول فإن ملك عرض التجارة بنصاب من النقد بأن اشتراه بعشرين دينارا أو بمائتي درهم ، فابتداء الحول من حين ملك ذلك النقد ، ويبني حول التجارة عليه ، واحتج له المصنف : بأن النصاب هو الثمن ، وكان ظاهرا فصار في ثمن السلعة كامنا فوجب البناء عليه ، كما لو كان عينا فأقرضه مليئا فصار دينا ، هذا إذا اشتراه بعين النقد ، فإن اشترى في الذمة ودفعه في ثمنه انقطع حول النقد وابتدأ حول التجارة من حين الشرى بلا خلاف ، وإن كان النقد الذي اشترى بعينه دون نصاب .

                                      فإن قلنا بالمذهب : إن النصاب إنما يعتبر في آخر الحول ، انعقد من حين الشرى ، وإن قلنا : يعتبر في الطرفين أو في الجميع لم ينعقد ، ولا خلاف أنه لا ينعقد قبل الشرى ; لأن الثمن لم يكن مال التجارة لنقصه عن النصاب .

                                      [ ص: 15 ] وإن اشترى بغير نقد فللثمن حالان ( أحدهما ) : أن يكون مما لا زكاة في عينه كالثياب والعبيد ، فابتداء الحول من حين ملك عرض التجارة إن كانت قيمة العرض نصابا أو كانت دونه ، وقلنا بالصحيح : إن النصاب إنما يعتبر في آخر الحول .

                                      ( الحال الثاني ) : أن يكون مما يجب الزكاة في عينه بأن ملك بنصاب من السائمة فوجهان .

                                      ( الصحيح ) الذي قاله ابن سريج وجمهور أصحابنا المتقدمين ، وصححه جميع المصنفين : أن حول الماشية ينقطع ويبتدئ حول التجارة من حين ملك عرض التجارة ، ولا يبني لاختلاف الزكاتين قدرا ووقتا ، بخلاف بناء التجارة على النقد .

                                      وقال أبو سعيد الإصطخري : يبنى على حول الماشية كما يبنى على النقد ، واحتج له من نص الشافعي رضي الله عنه بقوله في " المختصر " : فإن اشترى العرض بدراهم أو دنانير أو شيء يجب فيه الصدقة لم يقوم ، حتى يحول الحول من يوم ملك ثمن العرض . وأجاب الأصحاب عن نصه في " المختصر " بجوابين : ( أحدهما ) : أن المراد إذا اشترى ماشية ثم اشترى بها عرض التجارة في الحال .

                                      ( والثاني ) : أن المراد بثمن العرض الدراهم والدنانير خاصة ، وهذا معتاد في كلام الشافعي رضي الله عنه أن يذكر مسائل ، ويعود الجواب أو التفريع إلى بعضها ، والله تعالى أعلم .

                                      قال أصحابنا : وحول التجارة والنقد يبنى كل واحد منهما على الآخر ، فبناء التجارة على النقد سبق تصويره ، وبناء النقد على التجارة : أن يبيع عرض التجارة بنصاب من النقد للقنية ، فيبنى حول النقد على حول التجارة كعكسه ، والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية