الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      أسماء الله غير مخلوقة

      وقال عثمان بن سعيد الدارمي - نقمة الله على بشر المريسي وذويه : باب الإيمان بأسماء الله - تعالى - وأنها غير مخلوقة ، قال : ثم اعترض المعترض - يعني ابن الثلجي - أسماء الله - تعالى - المقدسة ، فذهب في تأويلها مذهب إمامه المريسي ، فادعى أن أسماء الله غير الله ، وأنها مستعارة مخلوقة كما أنه قد يكون شخص بلا اسم ، فتسميته لا تزيد في الشخص ولا تنقص ، يعني الخبيث أن الله - تعالى - كان مجهولا كشخص مجهول ، لا يهتدى لاسمه ولا يدرى ما هو ، حتى خلق الخلق فابتدعوا له أسماء من مخلوق كلامهم ، فأعاروه إياها من غير أن يعرف له اسم قبل الخلق ، قال : ومن ادعى التأويل في أسماء الخلق ، قال : ومن ادعى التأويل في أسماء الله ، فقد نسب الله - تعالى - إلى العجز والوهن ، والضرورة والحاجة إلى الخلق ; لأن المستعير محتاج مضطر ، والمعير أبدا أعلى منه وأغنى ، ففي هذه الدعوى استجهال الخالق ، إذ كان بزعمه هملا لا يدرى ما اسمه ، والله المتعالي عن هذا الوصف المنزه عنه ; لأن أسماء الله - تعالى - هي تحقيق صفاته ، سواء عليك قلت عبدت الله أو عبدت الرحمن ، أو الرحيم ، أو الملك العزيز الحكيم ، وسواء على الرجل قال : كفرت بالله أو قال : كفرت بالرحمن الرحيم أو بالخالق العزيز الحكيم ، وسواء عليك قلت : عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد العزيز أو عبد المجيد ، وسواء عليك قلت : يا الله ، أو يا رحمن ، أو يا رحيم ، أو يا مالك يا عزيز يا جبار ، بأي اسم دعوته من هذه الأسماء أو أضفته إليه ، فإنما تدعو الله نفسه ، من شك فيه فقد كفر ، وسواء عليك قلت : ربي الله أو ربي الرحمن ، كما قال تعالى : ( وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ) ، ( الأنبياء : 112 ) ، وقال تعالى : ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض ) ، ( الصف : 1 ) ، وقال : ( وسبحوه بكرة وأصيلا ) ، ( الأحزاب : 42 ) ، كذلك قال في الاسم : ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، كما قال تعالى : [ ص: 121 ] ( يسبح له ) ، ولو كان الاسم مخلوقا مستعارا غير الله ، لم يأمر الله - تعالى - أن يسبح مخلوق غيره ، وقال تعالى : ( له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) ، ( الحشر : 24 ) ، ثم ذكر الآلهة التي تعبد من دون الله - عز وجل - بأسمائها المخلوقة المستعارة ، فقال تعالى : ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ) ، ( النجم : 23 ) ، وكذلك قال هود لقومه حين قالوا : ( أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ) ، ( الأعراف : 70 ) ، فقال لهم نبيهم : ( أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ) ، ( الأعراف : 71 ) ، يعني أن أسماء الله - تعالى - لم تزل كما لم يزل عز وجل ، وأنها بخلاف هذه الأسماء المخلوقة التي أعاروها الأصنام والآلهة التي عبدوها من دونه .

      فإن لم تكن أسماء الله بخلافها ، فأي توبيخ لأسماء هذه الآلهة المخلوقة ؟ إذ كانت أسماؤها وأسماء الله - تعالى - مخلوقة مستعارة عندكم بمعنى واحد ، وكلها من تسمية العباد وتسمية آبائهم بزعمهم ، ففي دعوى هذا المعارض أن الخلق عرفوا الله إلى عباده بأسماء ابتدعوها ، لا أن الله عرفهم بها نفسه ، فأي تأويل أوحش في أسماء الله - تعالى - من أن يتأول رجل أنه كان كشخص مجهول ، أو بيت ، أو شجرة ، أو بهيمة لم يسبق لشيء منها اسم ، ولم يعرف ما هو حتى عرفه الخلق بعضهم بعضا ، ولا تقاس أسماء الله - تعالى - بأسماء الخلق ; لأن أسماء الخلق مخلوقة مستعارة ، وليست أسماؤهم نفس صفاتهم بل مخالفة لصفاتهم ، وأسماء الله تعالى صفاته ليس شيء منها مخالفا لصفاته ، ولا شيء من صفاته مخالفا لأسمائه .

      فمن ادعى أن صفة من صفات الله مخلوقة أو مستعارة ، فقد كفر وفجر ; لأنك إذا قلت : الله ، فهو الله ، وإذا قلت : الرحمن ، فهو الرحمن وهو الله ، فإذا قلت : الرحيم ، فهو كذلك ، وإذا قلت : حكيم عليم حميد مجيد جبار متكبر قاهر قادر ، فهو كذلك ، وهو الله سواء لا يخالف اسم له صفته ولا صفته اسما ، وقد يسمى الرجل حكيما وهو جاهل ، وحكما وهو ظالم ، وعزيزا وهو حقير ، وكريما وهو لئيم ، وصالحا وهو طالح ، وسعيدا وهو شقي ، ومحمودا وهو مذموم ، وحبيبا وهو بغيض ، وأسدا وحمارا وكلبا وجديا وكليبا وهرا وحنظلة وعلقمة وليس كذلك .

      والله تعالى وتقدس اسمه كل أسمائه سواء ، لم يزل كذلك ولا يزال ، لم تحدث له صفة ولا اسم لم يكن كذلك ، كان خالقا قبل المخلوقين ، ورازقا قبل المرزوقين ، وعالما قبل [ ص: 122 ] المعلومين ، وسميعا قبل أن يسمع أصوات المخلوقين ، وبصيرا قبل أن يرى أعيانهم مخلوقة ، قال الله تعالى : (الرحمن على العرش استوى ) ، ( طه : 5 ) ، وقال : ( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ) ، ( السجدة : 4 ) ، وقال في موضع : ( ثم استوى على العرش الرحمن ) ، ( الفرقان : 59 ) ; لأنهما بمعنى واحد ، ولو كان كما ادعى المعارض - يعني ابن الثلجي وإمامه المريسي ، لكان الخالق والمخلوق استويا جميعا على العرش ، إذ كانت أسماؤه مخلوقة عندهم ، إذ كان الله في دعواهم في حد المجهول أكثر منه في حد المعروف ; لأن لحدوث الخلق حدا ووقتا ، وليس لأزلية الله - تعالى - حد ولا وقت ، لم يزل ولا يزال ، وكذلك أسماؤه لم تزل ولا تزال .

      ثم احتج المعارض لترويج مذهبه هذا بأقبح قياس ، فقال : أرأيت لو كتبت اسما في رقعة ، ثم احترقت الرقعة ، أليس إنما تحرق الرقعة ولا يضر الاسم شيئا ؟ فيقال لهذا التائه الذي لا يدري ما يخرج من رأسه : إن الرقعة وكتابة الاسم ليس كنفس الاسم ، إذا احترقت الرقعة احترق الخط ، وبقي اسم الله له وعلى لسان الكاتب لم يزل قبل أن يكتب ، لم تنقص النار من الاسم ولا ممن له الاسم شيئا ، وكذلك لو كانت أسماء المخلوقين ، لم تنقص النار من أسمائهم ولا من أجسامهم شيئا ، وكذلك لو كتبت الله بهجائه في رقعة ، ثم أحرقت الرقعة لاحترقت الرقعة ، وكان الله سبحانه بكماله على عرشه .

      وكذلك لو صور رجل في رقعة ، ثم ألقيت في النار ، لاحترقت الرقعة ولم يضر المصور شيئا ، وكذلك القرآن لو احترقت المصاحف كلها ، لم ينقص من القرآن نفسه حرف واحد ، وكذلك لو احترق القراء كلهم أو قتلوا أو ماتوا ، لبقي القرآن بكماله كما كان لم ينقص منه حرف واحد ; لأنه منه بدا وإليه يعود عند فناء الخلق بكماله غير منقوص ، وقد كان للمريسي في أسماء الله مذهب كمذهبه في القرآن ، كان القرآن عنده مخلوقا من قول البشر ، لم يتكلم الله بحرف منه في دعواه ، وكذلك أسماء الله - تعالى - عنده من ابتداع البشر ، من غير أن يقول تعالى : ( إني أنا الله رب العالمين ) ، ( القصص : 30 ) بزعمه قط ، وزعم أني متى اعترفت بأن الله - تعالى - تكلم بـ : ( إني أنا الله رب العالمين ) ، لزمني أن أقول تكلم بالقرآن ، ولو اعترفنا بذلك لانكسر علينا مذهبنا في القرآن ، وقد كسره عليهم على رغم أنوفهم ، فقال : ( إني أنا الله رب العالمين ) [ ص: 123 ] ولا يستحق مخلوق أن يتكلم بهذا ، فإن فعل ذلك كان كافرا ، كفرعون الذي قال : ( أنا ربكم الأعلى ) ، ( النازعات : 24 ) ، فهذا الذي ادعوا في أسماء الله - عز وجل - أصل كبير من أصول الجهمية التي بنوا عليها محنتهم ، وأسسوا بها ضلالتهم ، غالطوا بها الأغمار والسفهاء ، وهم يرون أنهم يغالطون بها الفقهاء ، ولئن كان السفهاء وقعوا في غلط مذهبهم ، فإن الفقهاء منهم لعلى يقين .

      أرأيتم قولكم : إن أسماء الله مخلوقة ، فمن خلقها ؟ وكيف خلقها ؟ أجعلها أجساما وصورا تشغل أعيانها أمكنة دونه من الأرض والسماء أم موضعا دونه في الهواء ؟ فإن قلتم لها أجسام دونه ، فهذا ما تنقمه عقول العقلاء ، وإن قلتم خلقها في ألسنة العباد فدعوه بها وأعاروها إياه ، فهو مما ادعينا عليكم أن الله - تعالى - كان بزعمكم مجهولا لا اسم له ، حتى أحدث الخلق فأحدثوا له أسماء من مخلوق كلامهم ، فهذا هو الإلحاد في أسماء الله والتكذيب بها ، قال الله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) ، ( الفاتحة : 2 - 4 ) كما يضيفه إلى رب العالمين ، ولو كان كما ادعيتم لقيل الحمد لله رب العالمين ، المسمى الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، وكما قال : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق ) ، ( آل عمران : 2 - 3 ) كما قال : ( تنزيل الكتاب من الله ) ، ( الزمر : 1 ) كذلك قال : ( تنزيل من الرحمن الرحيم ) ، ( تنزيل من حكيم حميد ) ، ( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) ، ( النمل : 6 ) ، كلها بمعنى واحد ، وكلها هي الله ، والله هو أحد أسمائه ، إلى أن قال : وكما قال - تعالى في كتابه : ( أنا الله رب العالمين ) ، كذلك قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : ( أنا الرحمن ) ، ثم روى بسنده حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قال الله تعالى : أنا الرحمن ، وهي الرحم شققت لها من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها بتته . فيقول الله تعالي : [ ص: 124 ] أنا شققت لها من اسمي ، وادعت الجهمية مكذبين لله ولرسوله أنهم أعاروه الاسم الذي شقها منه ، ومن أين علم الخلق أسماء الخالق قبل تعليمه إياهم ، فإنه لم يعلم آدم ولا الملائكة أسماء المخلوقين حتى علمهم الله - تعالى - من عنده ، وكان بدء علمها منه ، فقال تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) ، ( البقرة : 31 - 33 ) .

      وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله تسعة وتسعين اسما ، ومن أحصاها وحفظها دخل الجنة . وساق الأسماء الحسنى كما قدمنا ، ثم قال : فهذه كلها أسماء [ ص: 125 ] الله - تعالى - لم تزل له كما لم يزل بأيها دعوت ، فإنما تدعو الله نفسه ، قال : ولن يدخل الإيمان قلب رجل حتى يعلم أن الله - تعالى - لم يزل إلها واحدا بجميع أسمائه وجميع صفاته ، لم يحدث له منها شيء ، كما لم تزل وحدانيته . انتهى كلامه - رحمه الله تعالى - .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية