الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 197 ] باب

ذكر اللام ألف ، وأي الطرفين منه هي الهمزة

اعلم أن المتقدمين من علماء العربية اختلفوا في أي الطرفين من اللام ألف هي الهمزة .

فحكي عن الخليل بن أحمد - رحمه الله - أنه قال : الطرف الأول في الصورة هو الهمزة ، والطرف الثاني هو اللام .

وذهب إلى هذا القول عامة أهل النقط من المتقدمين والمتأخرين ، واستدلوا على صحة ذلك بأشياء قاطعة ، منها أن رسم هذه الكلمة كان أولا كما ترى :

لـا لاما ممطوطة في طرفها ألف ، كنحو رسم ما أشبه ذلك مما هو على حرفين ، الثاني منهما ألف ، من سائر حروف المعجم ، نحو : ( يا ) ، و ( ها ) ، و ( ما ) [ ص: 198 ] وشبهه . فاستثقلوا رسم ذلك كذلك ، وكرهوه في اللام ألف خاصة ؛ لاعتدال طرفيه وقيامهما مستويين . إذ هو بذلك كصورتين متفقتين ، مع اشتباهه في الصورة بكتاب غير العرب من الأعاجم وغيرهم . فغيروا صورته لذلك ، وحسنوا رسمه بالتضفير ، فضموا أحد الطرفين إلى الآخر ، فأيهما ضم إلى صاحبه كانت الهمزة أولا ضرورة . وتعتبر حقيقة ذلك بأن يؤخذ شيء ، فيضفر ويخرج كل واحد من الطرفين إلى جهة . ثم يقام الطرفان . فيتبين في الوجهين أن الأول هو الثاني في الأصل ، وأن الثاني هو الأول لا محالة .

قالوا : وأيضا فإن من أتقن صناعة الخط من الكتاب المتقدمين وغيرهم إنما يبتدئ برسم الطرف الأيسر قبل الطرف الأيمن . ومن خالف ذلك ، وابتدأ برسم الطرف الأيمن قبل الطرف الأيسر فجاهل بصناعة الرسم ؛ إذ هو بمنزلة من ابتدأ برسم الألف قبل الياء والهاء والميم في ( يا ) و ( ها ) و ( ما ) وشبه ذلك مما هو على حرفين . فلا يلتفت إلى رسمه ، ولا يجعل ذلك دليلا على ترجيح أحد قولين مختلفين . فصح بذلك أيضا أن الطرف الأول هو الهمزة ، وأن الطرف الثاني هو اللام . إذ الأول في أصل القاعدة هو الثاني ، والثاني هو الأول ، وإنما اختلف طرفاهما فصارا كذلك ، للتضفير الذي لحقهما .

* * *

وقال الأخفش سعيد بن مسعدة بعكس ذلك . فزعم أن الطرف الأول هو اللام ، وأن الطرف الثاني هو الهمزة ، واستدل على صحة ما ذهب إليه من [ ص: 199 ] ذلك بأن الملفوظ به من حروف الكلم أولا هو المرسوم في الكتابة أولا ، وأن الملفوظ به من حروفهن آخرا هو المرسوم آخرا . قال : ونحن إذا قرأنا : لأنتم ، و " لآمرنهم " ، و لآتينهم وشبهه ؛ لفظنا باللام أولا ، ثم بالهمزة بعد .

قال أبو عمرو : وهذا القول لا يتحقق عند إمعان النظر ، ولا يصح عند التفتيش . بل يبطل عند ذلك بما قدمناه من الدلائل ، وأوردناه من الحجج . مع أن القائل به قد يتركه ويرجع إلى قول مخالفه فيما تتفق فيه حركة اللام والهمزة بالكسر ، نحو قوله : لإخوانهم ، و لإبراهيم ، و " لإيلف قريش " وشبهه ، وفيما تختلف فيه ، نحو : لأقتلك ، و لأهله ، و فلأمه ، و " لأبين " وشبهه ، من حيث يلزمه على ما قاله وأصله وقطع بصحته أن تجعل الكسرة أولا في ذلك ، ثم تجعل الهمزة بعد . وإذا جعلهما في ذلك كذلك ترك قوله ، ونبذ مذهبه ، ورجع إلى مذهب الخليل ومن تابعه من سائر أهل النقط . إذ الأول في ذلك هو طرف اللام ، والثاني هو طرف الهمزة بإجماع .

[ ص: 200 ] فإن قال : بل أقود أصلي ، ولا أزول عن مذهبي ، وأجعل الهمزة في ذلك أولا إذ هو طرفها ، وأجعل الحركة بعد إذ هو طرف اللام . قيل له : إذا فعلت ذلك تركت أيضا قولك ، وزلت عن مذهبك بأن الملفوظ به أولا هو اللام ، وأن الملفوظ به آخرا هو الهمزة ، بجعلك الهمزة ابتداء ثم الحركة آخرا ، ورجعت إلى قول من خالفك . وإذا كان تبين فساد قولك واضطراب مذهبك ، وتحقق قول مخالفك واطراد مذهبه ؛ لأنه جامع للباب ، عام في جميع الأصل . فكان لذلك أولى بالصواب ، وأحق بالاتباع .

* * *

فإن قيل : لم قرنت الألف باللام ، وخلطت بها . هلا أفردت بالكتابة كسائر الحروف ؟ قيل : لم يفعل ذلك من حيث كانت ساكنة ، والابتداء بالساكن متعذر ، فجعل قبلها حرف متحرك يوصل به إلى النطق بها ، فجعلت اللام ، فقيل : "لا" .

فإن قيل : من أين خصت اللام بأن تقرن بها دون غيرها من الحروف ؟ قيل : وجب تخصيصها بذلك من جهتين : إحداهما المشابهة التي بينهما في الصورة ، إذ كانتا على صورة واحدة ، فقرنت بها لشبهها بها في ذلك . والأخرى أن واضع الهجاء إنما قصد إلى تعريف كيفية رسم الألف إذا اتصلت باللام طرفا ، إذ هي في تلك الحال مختلطة بها . وليس شيء من الحروف معها كذلك ، فلذلك قرنها بها .

* * *

فإذا نقطت اللام ألف على مذهب الخليل وأهل النقط ؛ جعلت الهمزة نقطة بالصفراء في الطرف الأول من الطرفين ؛ لأنه الألف التي هي صورتها . وجعلت الفتحة نقطة بالحمراء عليها إن كانت مفتوحة ، وجعلت حركة اللام على [ ص: 201 ] الطرف الثاني إن كانت اللام مفتوحة . وذلك نحو : " لأرينكهم " ، و لأنتم أشد ، و " ولأملئن " ، و لأرجمنك ، و لأقتلنك وشبهه .

وإن كانت الألف التي هي الطرف الأول آتية بعد الهمزة ؛ جعلت الهمزة وحركتها قبلها على ذات اليمين في البياض نحو : لآية ، و " لآتينهم ، و لآدم ، و للآخرة ، و الآفلين ، و " الآكلين " ، وشبهه .

وإن كانت الهمزة مضمومة ، سواء أتى بعدها واو أو لم يأت ؛ جعلت النقطة بالصفراء في وسط الطرف الأول ، وجعلت الضمة أمامها . نحو : لأوتين ، و " لأمنينهم " ، و " لأصلبنهم " ، و لأغوينهم ، و لأولي الألباب ، وشبهه .

[ ص: 202 ] وإن كانت مكسورة جعلت الصفراء في الطرف الثاني من القاعدة ؛ لأنه طرف الألف التي تتقدم صورتها ، وجعلت الكسرة تحتها ، نحو : إلى الملإ ، و بالملإ ، و لإلى الله ، و لإلى الجحيم ، و للإيمان ، و الإنجيل ، وشبهه .

وإن كانت اللام مفتوحة ؛ جعلت الفتحة نقطة بالحمراء على الطرف الثاني الأعلى ؛ لأنه طرف اللام التي تتأخر صورتها بالتضفير .

وإن كانت مكسورة ؛ جعلت الكسرة نقطة بالحمراء تحت الطرف الأول من القاعدة ؛ لأنه طرف اللام . وذلك نحو قوله : لإخوانهم ، و لأهله ، وشبهه .

وإن كانت الهمزة آتية بعد الألف ، وكانت الألف حرف مد ؛ جعلت في البياض بعد الطرفين . ولم تجعل بينهما أصلا . وذلك أنها لما وقعت طرفا في الكلمة ولفظ بها لذلك بعد الفراغ من اللام ألف ، وانقضاء النطق به ، واستقرت العين التي يعتبر موضعها بها هناك ضرورة ، تحقق أن ذلك موضعها الذي تلزمه ، ومكانها الذي تستحقه لا غير . وتجعل حركتها من فوقها إن كانت مفتوحة ، ومن أسفلها إن كانت مكسورة ، ومن أمامها إن كانت مضمومة . [ ص: 203 ] وذلك نحو : " ءالاء الله " ، و الجلاء ، و " فبأي ءالاء ربكما " ، و الأخلاء ، وما أشبهه .

* * *

قد أتينا في كتابنا هذا على ما اشترطناه ، وتحرينا وجه الصواب فيما أوردناه ، ونحن نستغفر الله من زلل كان منا ، ومن تقصير لحقنا . وهو حسبنا ونعم الوكيل . [ ص: 204 ] [ ص: 205 ] [ ص: 206 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية