الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
نزول القرآن منجما

يقول تعالى في التنزيل : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين .

ويقول : قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين .

ويقول : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم .

ويقول : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله .

ويقول : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين .

فهذه الآيات ناطقة بأن القرآن الكريم كلام الله بألفاظه العربية ، وأن جبريل نزل به [ ص: 101 ] على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن هذا النزول غير النزول الأول إلى سماء الدنيا ، فالمراد به نزوله منجما ، ويدل التعبير بلفظ التنزيل دون الإنزال على أن المقصود النزول على سبيل التدرج والتنجيم ، فإن علماء اللغة يفرقون بين الإنزال والتنزيل ، فالتنزيل لما نزل مفرقا ، والإنزال أعم.

وقد نزل القرآن منجما في ثلاث وعشرين سنة منها ثلاث عشرة بمكة على الرأي الراجح ، وعشر بالمدينة ، وجاء التصريح بنزوله مفرقا في قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ، أي جعلنا نزوله مفرقا كي تقرأه على الناس على مهل وتثبت ، ونزلناه تنزيلا بحسب الوقائع والأحداث .

أما الكتب السماوية الأخرى -كالتوراة والإنجيل والزبور- فكان نزولها جملة ، ولم تنزل مفرقة ، يدل على هذا قوله تعالى : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ، فهذه الآية دليل على أن الكتب السماوية السابقة نزلت جملة ، وهو ما عليه جمهور العلماء ، ولو كان نزولها مفرقا لما كان هناك ما يدعو الكفار إلى التعجب من نزول القرآن منجما ، فمعنى قولهم : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة : هلا أنزل عليه القرآن دفعة واحدة كسائر الكتب ؟ وما له أنزل على التنجيم ؟ ولم أنزل مفرقا ؟ ولم يرد الله عليهم بأن هذه سنته في إنزال الكتب السماوية كلها كما رد عليهم في قولهم : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، بقوله : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، وكما رد عليهم في قولهم : أبعث الله بشرا رسولا ، بقوله : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ، وقوله : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ، بل أجابهم الله تعالى ببيان وجه الحكمة في تنزيل القرآن منجما بقوله :

[ ص: 102 ] كذلك لنثبت به فؤادك أي كذلك أنزل مفرقا لحكمة هي : تقوية قلب رسول الله ورتلناه ترتيلا أي قدرناه آية بعد آية بعضه إثر بعض ، أو بيناه تبيينا ، فإن إنزاله مفرقا حسب الحوادث أقرب إلى الحفظ والفهم وذلك من أعظم أسباب التثبيت .

والذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل ، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة ، وصح نزول عشر آيات في أول المؤمنين جملة ، وصح نزول : غير أولي الضرر وحدها وهي بعض آية “ . .

التالي السابق


الخدمات العلمية