الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      ( فصل ) والقسم الخامس : من أحكام هذه الإمارة مصابرة الأمير قتال العدو ما صابر وإن تطاولت به المدة ، ولا يولي عنه وفيه قوة قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } .

                                      وفيه ثلاثة تأويلات : أحدها : اصبروا على طاعة الله وصابروا أعداء الله ورابطوا في سبيل الله ، وهذا قول الحسن .

                                      والثاني : اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدكم ورابطوا عدوي وعدوكم وهذا قول محمد بن كعب [ ص: 61 ]

                                      والثالث : اصبروا على الجهاد وصابروا العدو ورابطوا بملازمة الثغر وهذا قول زيد بن أسلم . وإذا كانت مصابرة القتال من حقوق الجهاد فهي لازمة حتى يظفر بخصلة من أربع خصال : إحداهن أن يسلموا فيصير لهم بالإسلام ما لنا وعليهم ما علينا ويقروا على ما ملكوا من بلاد وأموال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها } .

                                      وتصير بلادهم إذا أسلموا دار الإسلام يجري عليهم حكم الإسلام ، ولو أسلم في معركة الحرب منهم طائفة قلت أو كثرت أحرزوا بإسلامهم ما ملكوا في دار الحرب من أرض ومال فإن ظهر الأمير على دار الحرب لم يغنم أموال من أسلم . وقال أبو حنيفة : يغنم ما لا ينقل من أرض ودار ، ولا يغنم ما ينقل من مال ومتاع وهو خلاف السنة .

                                      وقد أسلم في حصار بني قريظة ثعلبة وأسيد ابنا شعبة اليهوديان فأحرز إسلامهما أموالهما ويكون إسلامهم إسلاما لصغار أولادهم ولكل حمل كان لهم .

                                      وقال أبو حنيفة : إذا أسلم كافر في دار الإسلام لم يكن إسلاما لصغار ولده ، ولو أسلم في دار الحرب كان إسلاما لصغار ولده ولا يكون إسلاما للحمل وتكون زوجته والحمل فيئا ، ولو دخل مسلم دار الحرب فاشترى فيها أرضا ومتاعا لم يملك عليه إذا ظهر المسلمون عليها وكان مشتريها أحق بها .

                                      وقال أبو حنيفة يكون ما ملكه من أرض فيئا . والخصلة الثانية أن يظفره الله تعالى بهم مع مقامهم على شركهم فتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم ويقتل من لم يحصل في الأسر منهم .

                                      ويكون في الأسرى مخيرا في استعمال الأصلح من أربعة أمور : أحدها : أن يقتلهم صبرا بضرب العنق .

                                      والثاني : أن يسترقهم ويجري عليهم أحكام الرق من بيع أو عتق .

                                      والثالث : أن يفادي بهم على مال أو أسرى .

                                      والرابع : أن يمن عليهم ويعفو عنهم ، قال الله تعالى : [ ص: 62 ] { إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } .

                                      وفيه وجهان : أحدهما : أنه ضرب رقابهم صبرا بعد القدرة عليهم .

                                      والثاني : أنه قتالهم بالسلاح والتدبير حتى يفضي إلى ضرب رقابهم في المعركة ، ثم قال : { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق } يعني بالإثخان : الطعن وبشد الوثاق : الأسر . { فإما منا بعد وإما فداء } .

                                      وفي المن قولان : أحدهما : أنه العفو والإطلاق كما من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال بعد أسره .

                                      والثاني : أنه العتق بعد الرق ، وهذا قول مقاتل ، وأما الفداء ففيه ههنا قولان :

                                      أحدهما : أنه المفاداة على مال يؤخذ أو أسير يطلق كما فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى بدر على مال وفادى في بعض المواطن رجل برجلين والثاني : أنه البيع وهو قول مقاتل . { حتى تضع الحرب أوزارها } .

                                      وفيه تأويلان ، أحدهما : أوزار الكفر بالإسلام . والثاني : أثقال الحرب وهو السلاح وفي المقصود بهذا السلاح الموضوع وجهان : أحدهما سلاح المسلمين بالنصر . والثاني سلاح المشركين بالهزيمة ولهذه الأحكام الأربعة شرح يذكر مع قسمة الغنيمة بعد ، والخصلة الثالثة أن يبذلوا مالا على المسألة والموادعة ; فيجوز أن يقبله منهم ويوادعهم على ضربين : أحدهما أن يبذلوه لوقتهم ولا يجعلوه خراجا مستمرا ، فهذا المال غنيمة لأنه مأخوذ بإيجاف خيل وركاب ، فيقسم بين الغانمين ويكون ذلك أمانا لهم في الانكفاف به عن قتالهم في هذا الجهاد ولا يمنع من جهادهم فيما بعد . والضرب الثاني أن يبذلوه في كل عام فيكون هذا خراجا مستمرا ويكون الأمان به مستقرا [ ص: 63 ] والمأخوذ منهم في العام الأول غنيمة تقسم بين الغانمين وما يؤخذ في الأعوام المستقبلة يقسم في أهل الفيء ، ولا يجوز أن يعاود جهادهم ما كانوا مقيمين على بذل المال لاستقرار الموادعة عليه .

                                      وإذا دخل أحدهم إلى دار الإسلام كان له بعقد الموادعة الأمان على نفسه وماله ، فإن منعوا المال زالت الموادعة وارتفع الأمان ولزم جهادهم كغيرهم من أهل الحرب .

                                      وقال أبو حنيفة . لا يكون منعهم من مال الجزية والصلح نقضا لأمانهم ، لأنه حق عليهم فلا ينتقض العهد وجاز حربهم بعدها ، لأن العهد ما كان عن عقد والخصلة الرابعة أن يسألوا الأمان والمهادنة ، فيجوز إذا تعذر الظفر بهم وأخذ المال منهم أن يهادنهم على المسالمة في مدة مقدرة يعقد الهدنة عليها إذا كان الإمام قد أذن له في الهدنة أو فوض الأمر إليه . قد { هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية عشر سنين } . ويقتصر في مدة الهدنة على أقل ما يمكن ولا يجاوز أكثرها عشر سنين ، فإن هادنهم أكثر منها بطلت المهادنة فيما زاد عليها ، ولهم الأمان فيها إلى انقضاء مدتها ، ولا يجاهدون فيها ما أقاموا على العهد ، فإن نقضوه صار حربا يجاهدون من غير إنذار . قد نقضت قريش صلح الحديبية فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح محاربا حتى فتح مكة صلحا عند الشافعي وعنوة عند أبي حنيفة ; ولا يجوز إذا نقضوا عهدهم أن يقتل ما في أيدينا من رهائنهم . قد نقض الروم عهدهم زمن معاوية وفي يده رهائن فامتنع المسلمون جميعا من قتلهم وخلوا سبيلهم وقالوا وفاء بغدر خير من غدر بغدر . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { أد الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك } .

                                      فإذا لم يجز قتل الرهائن لم يجز إطلاقهم ما لم يحاربهم فإذا حاربهم وجب إطلاق رهائنهم ثم ينظر فيهم ، فإن كانوا رجالا وجب إبلاغهم مأمنهم ، وإن كانوا ذراري نساء وأطفالا وجب إيصالهم إلى أهاليهم لأنهم أتباع لا ينفردون بأنفسهم ، ويجوز أن يشترط لهم في عقد الهدنة رد من أسلم من رجالهم ، فإذا أسلم أحد منهم رد إليهم إن كانوا مأمونين على دمه ولم يرد إليهم أن [ ص: 64 ] يؤمنوا عليه ، ولا يشترط رد من أسلم من نسائهم لأنهن ذوات فروج محرمة ، فإن اشترط ردهن لم يجز أن يردوا ودفع إلى أزواجهن مهورهن إذا طلقن .

                                      وإذا لم تدع إلى عقد المهادنة ضرورة لم يجز أن يهادنهم ، ويجوز أن يوادعهم أربعة أشهر فما دون ولا يزيد عليها ، لقوله تعالى : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } .

                                      وأما الأمان الخاص فيصح أن يبذله كل مسلم من رجل وامرأة حر وعبد لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { المسلمون تتكافأ دماؤهم على من سواهم ، يسعى بذمتهم أدناهم } ، يعني عبيدهم . وقال أبو حنيفة لا يصح أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له في القتال .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية