الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب حجة من كفر تارك الصلاة

                                                                                                                                            400 - ( عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة } رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث يدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر ، ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ترك الصلاة منكرا لوجوبها إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة ، وإن كان تركه لها تكاسلا مع اعتقاده لوجوبها كما هو حال كثير من الناس ، فقد اختلف الناس في ذلك ، فذهبت العترة والجماهير من السلف والخلف ، منهم مالك والشافعي إلى أنه لا يكفر بل يفسق ، فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ، ولكنه يقتل بالسيف .

                                                                                                                                            وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل ، وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه ، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي . وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي إلى أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي . احتج الأولون على عدم الكفر بقول الله عز وجل : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، وبما سيأتي في الباب الذي بعد هذا من الأدلة ، واحتجوا على قتله بقوله تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها } الحديث متفق عليه . وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم : { بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة } وسائر أحاديث الباب على أنه مستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل ، أو أنه محمول على المستحل ، أو على أنه قد يئول به إلى الكفر ، أو على أن فعله فعل الكفار .

                                                                                                                                            واحتج أهل القول الثاني بأحاديث الباب . واحتج أهل القول الثالث على عدم الكفر بما احتج به أهل القول الأول ، وعلى عدم القتل بحديث : { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث } وليس فيه الصلاة . والحق أنه كافر يقتل ، أما كفره فلأن الأحاديث قد صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق [ ص: 362 ] هذا الاسم عليه هو الصلاة ، فتركها مقتض لجواز الإطلاق ، ولا يلزمنا شيء من المعارضات التي أوردها الأولون ; لأنا نقول : لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة ، ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرا ، فلا ملجئ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيقها وأما أنه يقتل فلأن حديث { أمرت أن أقاتل الناس } يقضي بوجوب القتل لاستلزام المقاتلة له ، وكذلك سائر الأدلة المذكورة في الباب الأول ، ولا أوضح من دلالتها على المطلوب ، وقد شرط الله في القرآن التخلية بالتوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فقال : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } ، فلا يخلى من لم يقم الصلاة .

                                                                                                                                            وفي صحيح مسلم { سيكون عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن أنكر فقد برئ عنقه ، ومن كره فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع ، فقالوا : ألا نقاتلهم ؟ قال : لا ما صلوا } فجعل الصلاة هي المانعة من مقاتلة أمراء الجور . وكذلك قوله لخالد في الحديث السابق : ( لعله يصلي ) فجعل المانع من القتل نفس الصلاة . وحديث { لا يحل دم امرئ مسلم } لا يعارض مفهومه المنطوقات الصحيحة الصريحة . والمراد بقوله في حديث الباب : { بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة } كما قال النووي : إن الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة ، فإن تركها لم يبق بينه وبين الكفر حائل .

                                                                                                                                            وفي لفظ لمسلم : { بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة } ومن الأحاديث الدالة على الكفر حديث الربيع بن أنس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا } ذكره الحافظ في التلخيص . وقال : سئل الدارقطني عنه فقال : رواه أبو النضر عن أبي جعفر عن الربيع موصولا وخالفه علي بن الجعدي فرواه عن أبي جعفر عن الربيع مرسلا وهو أشبه بالصواب . وأخرجه البزار من حديث أبي الدرداء بدون قوله ( جهارا ) وأخرج ابن حبان في الضعفاء من حديث أبي هريرة مرفوعا { تارك الصلاة كافر } واستنكره . ورواه أبو نعيم من حديث أبي سعيد ، وفيه عطية وإسماعيل بن يحيى وهما ضعيفان . قال العراقي : لم يصح من أحاديث الباب إلا حديث جابر المذكور ، وحديث بريدة الذي سيأتي . وأخرج ابن ماجه من حديث أبي الدرداء قال { أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن لا تشرك بالله وإن قطعت وحرقت ، وأن لا تترك صلاة مكتوبة متعمدا ، فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة ، ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر } قال الحافظ : وفي إسناده ضعف . ورواه الحاكم في المستدرك ، ورواه أحمد والبيهقي من طريق أخرى وفيه انقطاع . ورواه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت ، ومن حديث معاذ بن جبل وإسنادهما ضعيفان . وقال ابن الصلاح والنووي : إنه حديث منكر . واختلف القائلون بوجوب قتل تارك الصلاة ، فالجمهور أنه يضرب عنقه بالسيف [ ص: 363 ] وقيل : يضرب بالخشب حتى يموت . واختلفوا أيضا في وجوب الاستتابة ، فالهادوية توجبها وغيرهم لا يوجبها فإنه يقتل حدا ، ولا تسقط التوبة الحدود كالزاني والسارق .

                                                                                                                                            وقيل : إنه يقتل لكفره ، فقد حكى جماعة الإجماع على كفره كالمرتد وهو الظاهر وقد أطال الكلام المحقق ابن القيم ذلك في كتابه في الصلاة . والفرق بينه وبين الزاني واضح ، فإن هذا يقتل لتركه الصلاة في الماضي وإصراره على تركها في المستقبل ، والترك في الماضي يتدارك بقضاء ما تركه بخلاف الزاني فإنه يقتل بجناية تقدمت لا سبيل إلى تركها واختلفوا هل يجب القتل لترك صلاة واحدة أو أكثر ، فالجمهور أنه يقتل لترك صلاة واحدة ، والأحاديث قاضية بذلك ، والتقييد بالزيادة على الواحدة لا دليل عليه .

                                                                                                                                            قال أحمد بن حنبل : إذا دعي إلى الصلاة فامتنع وقال : لا أصلي حتى خرج وقتها وجب قتله ، وهكذا حكم تارك ما يتوقف صحة الصلاة عليه من وضوء أو غسل أو استقبال القبلة أو ستر عورة وكل ما كان ركنا وشرطا .

                                                                                                                                            401 - ( وعن بريدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر } رواه الخمسة ) . الحديث صححه النسائي العراقي ورواه ابن حبان والحاكم ، وهو يدل على أن تارك الصلاة يكفر ; لأن الترك الذي جعل الكفر معلقا به مطلق عن التقييد ، وهو يصدق بمرة لوجود ماهية الترك في ضمنها والخلاف في المسألة والتصريج بما هو الحق فيها قد تقدم في الذي قبله .

                                                                                                                                            402 - ( وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا منخ الأعمال تركه كفر غير الصلاة رواه الترمذي ) . الحديث رواه الحاكم وصححه على شرطهما ، وذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عنه والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة ; لأن قوله : " كان أصحاب رسول الله " جمع مضاف ، وهو من المشعرات بذلك .

                                                                                                                                            403 - ( وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { ذكر الصلاة يوما [ ص: 364 ] فقال : من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف } رواه أحمد ) الحديث أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط . وقال في مجمع الزوائد : رجال أحمد ثقات ، وفيه أنه لا انتفاع للمصلي بصلاته إلا إذا كان محافظا عليها ; لأنه إذا انتفى كونها نورا وبرهانا ونجاة مع عدم المحافظة انتهى نفعها . قوله : ( وكان يوم القيامة مع قارون ) إلخ يدل على أن تركها كفر متبالغ ; لأن هؤلاء المذكورين هم أشد أهل النار عذابا ، وعلى تخليد تاركها في النار كتخليد من جعل منهم في العذاب ، فيكون هذا الحديث مع صلاحيته للاحتجاج مخصصا لأحاديث خروج الموحدين ، وقد ورد من هذا الجنس شيء كثير في السنة ويمكن أن يقال مجرد المعية والمصاحبة لا يدل على الاستمرار والتأبيد لصدق المعنى اللغوي بلبثه معهم مدة ، لكن لا يخفى أن مقام المبالغة يأبى ذلك وسيأتي في الباب الثاني ما يعارضه . .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية