الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ( 110 ) إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ( 111 ) )

[ ص: 80 ] يقول تعالى ذكره : فاتخذتم أيها القائلون لربكم ( ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ) في الدنيا ، القائلين فيها : ( ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ) سخريا . والهاء والميم في قوله : ( فاتخذتموهم ) من ذكر الفريق .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( سخريا ) فقرأه بعض قراء الحجاز وبعض أهل البصرة والكوفة ( فاتخذتموهم سخريا ) بكسر السين ، ويتأولون في كسرها أن معنى ذلك الهزء ، ويقولون : إنها إذا ضمت فمعنى الكلمة : السخرة والاستعباد . فمعنى الكلام على مذهب هؤلاء : فاتخذتم أهل الإيمان بي في الدنيا هزؤا ولعبا ، تهزءون بهم ، حتى أنسوكم ذكري . وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة : " فاتخذتموهم سخريا " بضم السين ، وقالوا : معنى الكلمة في الضم والكسر واحد . وحكى بعضهم عن العرب سماعا لجي ولجي ، ودري ، ودري ، منسوب إلى الدر ، وكذلك كرسي وكرسي ; وقالوا ذلك من قيلهم كذلك ، نظير قولهم في جمع العصا : العصي بكسر العين ، والعصي بضمها ; قالوا : وإنما اخترنا الضم في السخري ; لأنه أفصح اللغتين .

والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مشهورتان ، ولغتان معروفتان بمعنى واحد ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ ذلك فمصيب ، وليس يعرف من فرق بين معنى ذلك إذا كسرت السين وإذا ضمت ; لما ذكرت من الرواية عمن سمع من العرب ما حكيت عنه .

ذكر الرواية به عن بعض من فرق في ذلك بين معناه مكسورة سينه ومضمومة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ( فاتخذتموهم سخريا ) قال : هما مختلفتان : سخريا ، وسخريا ، يقول الله : ( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) قال : هذا سخريا : يسخرونهم ، والآخرون : الذين يستهزئون بهم هم سخريا ، فتلك سخريا يسخرونهم عندك ، فسخرك رفعك فوقه ، والآخرون : استهزءوا بأهل الإسلام هي : سخريا يسخرون منهم . فهما مختلفتان . وقرأ قول الله : ( وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ) وقال : يسخرون منهم كما سخر قوم نوح بنوح ، اتخذوهم سخريا : اتخذوهم هزؤا ، لم يزالوا يستهزئون بهم .

[ ص: 81 ] وقوله : ( حتى أنسوكم ذكري ) يقول : لم يزل استهزاؤكم بهم ، أنساكم ذلك من فعلكم بهم ذكري ، فألهاكم عنه ( وكنتم منهم تضحكون ) .

كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( حتى أنسوكم ذكري ) قال : أنسى هؤلاء الله استهزاؤهم بهم ، وضحكهم بهم ، وقرأ : ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ) حتى بلغ : ( إن هؤلاء لضالون ) . وقوله : ( إني جزيتهم اليوم بما صبروا ) يقول تعالى ذكره : إني أيها المشركون بالله المخلدون في النار ، جزيت الذين اتخذتموهم في الدنيا سخريا من أهل الإيمان بي ، وكنتم منهم تضحكون اليوم ، بما صبروا على ما كانوا يلقون بينكم من أذى سخريتكم وضحككم منهم في الدنيا ( أنهم هم الفائزون ) .

اختلفت القراء في قراءة : " إنهم " فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة ، وبعض أهل الكوفة : " أنهم " بفتح الألف من " أنهم " بمعنى : جزيتهم هذا ، فأن في قراءة هؤلاء في موضع نصب ، بوقوع قوله جزيتهم عليها ; لأن معنى الكلام عندهم : إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة ; وقد يحتمل النصب من وجه آخر ، وهو أن يكون موجها معناه : إلى أني جزيتهم اليوم بما صبروا ; لأنهم هم الفائزون بما صبروا في الدنيا ، على ما لقوا في ذات الله ، وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : " إني " بكسر الألف منها ، بمعنى الابتداء ، وقالوا : ذلك ابتداء من الله مدحهم .

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر الألف ; لأن قوله : " جزيتهم " ، قد عمل في الهاء والميم ، والجزاء إنما يعمل في منصوبين ، وإذا عمل في الهاء والميم لم يكن له العمل في " أن " فيصير عاملا في ثلاثة إلا أن ينوي به التكرير ، فيكون نصب " أن " حينئذ بفعل مضمر ، لا بقوله : جزيتهم ، وإن هي نصبت بإضمار لام لم يكن له أيضا كبير معنى ; لأن جزاء الله عباده المؤمنين بالجنة إنما هو على ما سلف من صالح أعمالهم في الدنيا ، وجزاؤه إياهم ، وذلك في الآخرة هو الفوز ، فلا معنى لأن يشرط لهم الفوز بالأعمال ثم يخبر أنهم إنما فازوا ، لأنهم هم الفائزون .

فتأويل الكلام إذ كان الصواب من القراءة ما ذكرنا : إني جزيتهم اليوم الجنة بما صبروا في الدنيا على أذاكم بها في أنهم اليوم هم الفائزون بالنعيم الدائم والكرامة الباقية أبدا ; بما عملوا من صالحات الأعمال في الدنيا ، ولقوا في طلب رضاي من المكاره فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية