الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

حرية الرأي في الاسلام (مقاربة في التصور والمنهجية)

الدكتور / محمد عبد الفتاح الخطيب

تقديم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله، الذي جعل الإيمان بالله الواحد سبيل التحرير والخلاص من الظلم والتسلط والإستبداد وتأله الإنسان على الإنسان.

لذلك فقد لا يكون مستغربا أن يكون العمل على تثبيت هـذه الحقيقة وتجليتها وتمثلها في واقع الناس، هـي مهمة الأنبياء جميعا، وقولة الأنبياء جميعا، وأولوية الرسالة السماوية للإنسان من لدن آدم، أبو البشر، عليه السلام ، الذي استخلفه الله فى الأرض إلى وريث النبوة وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ..

فحقيقة الصراع كانت دائما ولا تزال بين الحق والباطل، وجدلية الحياة كانت ولا تزال المدافعة والمغالبة والمضاربة بين الحق والباطل،

يقول تعالى: ( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) ( الرعد: 17) ،

ويقول: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ) ( الفرقان: 31) .

فرسالة النبوة ومعركتها الحقيقية تكمن في تحرير وخلاص الإنسان واسترداد حريته وكرامته من الطواغيت، لذلك كانت قولة الأنبياء جميعا:

( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) (الأعراف:59) ،

تلك المقولة التي تبلورت في النبوة الخاتمة بشهادة: " لا إله إلا الله " واستقرت شعارا للإيمان، وميثاقا [ ص: 5 ] للتحرر والتحرير، ومحورا للتدين، والحد الفاصل بين الإيمان والكفر، بين عبادة الله، وإجتناب عبادة الطاغوت، فكل جهود الأنبياء تمحورت حول التحصن بعقيدة التوحيد والإيمان بالله للحيلولة دون السقوط في الطاغوت .

ولعنا ندرك في ضوء ذلك المغزى الحقيقى لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : إن سورة الإخلاص ( قل هـو الله أحد ) ( الإخلاص:1) تعدل ثلث القرآن: ( والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ) ( أخرجه البخاري ) ..

إنها سورة الإخلاص، وإدراك أبعادها فى حياة الإنسان واصطباغ سلوكه بها عنوان للخلاص والحرية والانعتاق من العبوديات للطواغيت، حتى عندما يتعرض الإنسان لأشد حالات الضعف والسقوط والحصار، فإن الإيمان بالله الواحد يحمي النفس، ويحصن الأفكار، ويعتق الروح، ويحفظ القلب المجاهد من سلطان الطاغوت ويمده بالرؤية الصحيحة، كما أنه يحتفظ بخميرة النهوض والتصميم على اجتناب الطاغوت.

والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وحررها من الشرك والوثنيات, الذي بين الله مهمته في تأسيس الحرية وعدم الإكراه بقوله تعالى:

( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) (ق:45)

فكانت مهمته البيان والبرهان والبلاغ المبين، وعدم الإجبار والإكراه، ذلك أن أمر الاستجابة لهذا الخير من عدمها منوط بحرية الإنسان في الاختيار،

قال تعالى: ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ( الكهف: 29) ، [ ص: 6 ] وقال تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ) ( البقرة: 256) ،

فإما الإيمان بالله والتحرر والاستمساك بالعروة الوثقى وإما الوقوع في الطاغوت؛ والإنسان أولا وأخيرا هـو المسئول عن اختياره.

والطاغوت والطاغية والطغيان جميعها -كما نعلم- مصطلحات تدل على كل أنواع الظلم والتعسف والتسلط والإستبداد والإرهاب والإرعاب والتأله وإنتهاك حرية الإنسان وإلغاء كرامته، مهما كان الشعار الذي ترفعه تلك الطواغيت براقا، حتى ولو كان دينيا، ذلك أن الطاغوت الديني يعتبر من أشد وأعتى أنواع الطاغوت؛ لأنه لا يقتصر في التسلط على دنيا الناس وأموالهم وأقواتهم وحرياتهم وإنما يمتد طغيانه ليتحكم بأرواحهم ونفوسهم وأفكارهم وادعاء التصرف بمصيرهم؛ هـو طغيان يشمل دنيا الناس ويحاول الامتداد إلى آخرتهم، لذلك كان الطاغوت الديني من أبرز علل التدين في تاريخ الدين؛ ولذلك حذر القرآن أبناء الرسالة الخاتمة من الوقوع به باسم الدين؛ لأنه من أخطر علل التدين التي يمكن أن تتسرب إليهم من الأمم والأديان السابقة،

فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) ( التوبة: 34) ،

وكل باطل طاغوت. [ ص: 7 ]

والأمر اللافت أنه لم يأت التحذير من طاغوت المال أو السياسة أو الحكم بهذه الشدة والتخويف؛ لأنه مقدور على محاصرته وإنهائه، وإنما جاء التحذير من طاغوت الكهنة ورجال الدين؛ لأنه يقتل كل أمل في النهوض والإصلاح والحرية، وذلك عندما يتحول أمل الحل ومعقد الرجاء في الخلاص إلى صناعة المشكلة وتعقيدها، لذلك كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم المأثور: أن لا يجعل الله مصيبتنا في ديننا، يقول ابن عمر ، رضي الله عنهما : ( قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه:.. ولا تجعل مصيبتنا في ديننا.. ) (أخرجه الترمذي ) ؛ لأن المصيبة في الدنيا موقوتة ويمكن علاجها والصمود أمامها والأمل في تجاوزها، أما الإصابة في التدين والعقيدة وعالم الفكر، فهي الحالقة، وهي الأرضة ودابة الأرض التي تأكل منسأة الحضارة.

لقد كان الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم منتبها لهذه الإصابات والأخطار من أولى خطوات النبوة، حيث أعلن عن بشريته: ( إنما أنا بشر مثلكم ) ( أخرجه البخاري ) ،

( إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد ) ( أخرجه ابن ماجه ) ، وعدم علمه بالغيب:

( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) ( الأعراف: 188) ،

وأنه تجري عليه سنن الحياة من الخطأ والصواب، والموت والصحة والمرض، وغير ذلك من عوارض الحياة، إلا ما يناقض عصمة النبوة ومهمتها؛ وكان حريصا على التحذير من علل التدين وما وقع به أهل الأديان السابقة من أن تخلع عليه صفات الألوهية [ ص: 8 ] أو الكهانة فيقول صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله ) ( أخرجه البخاري ) ؛ واستطاع بفضل من الله وتأييد منه، منذ اللحظات الأولى للدعوة، أن يتحرر من أدوات الطغاة، من الابتزاز بالمال والزعامة والجنس، وأن يتجاوز فخاخهم.

وبذلك نستطيع أن نقول: إن النبوة الخاتمة كانت إيذانا للانفصال بين المقدس الديني الذي يمارسه البشر باسم الله، الحكم الطاغوتي ، وبين الألوهية الحقة، فعاد الحكام بشرا كسائر البشر، وانفصلت الكهانة والتحدث باسم الله عن توظيف الدين لاستغلال الناس، وكانت النبوة الخاتمة هـي وثيقة التحرير واسترداد إنسانية الإنسان، على الرغم من كل الإصابات التاريخية ومحاولات الانحراف بعقيدة التوحيد لإطفاء فاعليتها فى النفس وفعلها فى المجتمع والأمة، والانتهاء بها إلى ألوان من التدين السلبي الخارج عن إيقاع الحياة وجدليتها في تحرير الناس من الظلم، بحيث يصبح التدين لا معنى له ولا طعم ولا قيمة تغييرية ولا حياة متميزة، كما يستخدم لتسهيل مهمة الطواغيت.

وبعد:

فهذا " كتاب الأمة " الثاني والعشرون بعد المائة: " حرية الرأي في الإسلام.. مقاربة في التصور والمنهجية " ، للدكتور محمد عبد الفتاح الخطيب ، في سلسلة " كتاب الأمة " ، التي تصدرها وقفية الشيخ علي ابن عبد الله آل ثاني ، رحمه الله، للدراسات والمعلومات ( مركز البحوث والدراسات سابقا ) في دولة قطر ، مساهمة منها في استرداد الفاعلية لعقيدة [ ص: 9 ] التوحيد على مستوى الفرد والمجتمع والدولة والأمة، لتؤدي دورها في التحرير من شتى أنواع العبوديات، والانعتاق من سطوة الألوهيات المعاصرة، كما تؤدي دورها في التنمية لخصائص الإنسان والتغيير لواقعه، والدفاع عن المستضعفين والضعفاء، وترسيخ حقوق الإنسان وعلى رأسها قيمة الحرية وحقه في الحرية، وإيقاف التسلط من قبل الملأ الذي استكبروا، ومحاولة إلقاء الأضواء الكاشفة والفاضحة على الإصابات والممارسات التي لحقت بعقيدة التوحيد لتعطلها عن أداء دورها؛ ذلك أن منبع الشر في العالم كامن في تسلط الإنسان على الإنسان، ومصدر الظلم وانتهاك إنسانية الإنسان يكمن في الاستبداد السياسي ، الذي يعتبر جماع الشر كله.

وما لم يوقف هـذا التسلط وينسخ هـذا الاستبداد ببناء عقيدة دافعة للنهوض من داخل النفس، تحدث الرقابة وتنمي الوازع الداخلي، ويبتغي صاحبها الأجر من الله، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، حتى ولو غابت جميع الرقابات والمسئوليات عن ضبطه، وإبداع أدوات ووسائل مانعة من التسلط والظلم، فسوف تستمر سطوة الإنسان على الإنسان، وتهدر كرامات الناس، وتستلب إنسانيتهم.

وإذا تقررت لدينا الحقيقة القائلة: إنه لا إنسان بلا دين، ولا أدل على ذلك من أنه تاريخيا وجدت مدن وقرى بلا مصانع وبلا معامل وبلا مدارس.. إلخ، لكن لم يوجد تاريخيا مجتمع بشري بلا دين؛ ذلك أن النزوع إلى التدين بكل ما يقدمه من قراءة مطمئنة للحياة والأحياء ويجيب [ ص: 10 ] عليه من أسئلة النشأة والمصير إنما هـو فطرة بشرية، وإن شئت فقل: حاجة عضوية؛ الأمر الذي دعا بعض علماء الاجتماع إلى تعريف الإنسان عن غيره من المخلوقات بأنه مخلوق متدين.

وفي ضوء ذلك يمكن أن يتقرر: أن الذين ينكرون الأديان ويتنكرون للدين، وعلى الأخص عقيدة التوحيد والمساواة، إنما ينكرونها لأنها تسويهم بغيرهم من البشر، وتحول دون تسلطهم وتألههم، إنما ينكرونها ليقيموا من أنفسهم آلهة من دون الله، تتمتع بسطوة وسلطان التسلط، يقول تعالى حكاية عن هـذا النزوع الديني:

( فطرت الله التي فطر الناس عليها ) ( الروم: 30) ،

ويخبر عن ذلك النزوع، كواقع تاريخي، عندما مر قوم موسى، عليه السلام ، على قوم يعبدون الأصنام بقولهم له:

( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) ( الأعراف: 38) .

فلا إنسان بلا دين، ومن لم يعتنق العقيدة الصحيحة فإنما يعني ذلك عدوله عنها إلى عقائد أخرى، يصنعها أو تصنعه، لذلك فجدلية الضرب والمدافعة في الحياة مستمرة استمرار الحياة نفسها بين أصحاب عقيدة التوحيد والتحرير وعبادة الله وبين عقيدة الطواغيت.

والمعادلة الصعبة تكمن دائما في كيفية تحويل الناس إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت، الأمر الذي كان ولا يزال يمثل دعوة الأنبياء ومهمة ورثة النبوة ورسالتهم

( اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) ( النحل: 36) . [ ص: 11 ]

وقد تكون الإشكالية اليوم في عالم المسلمين ليست في البرهنة على الإسلام بحقوق الإنسان وعلى رأسها حق الحرية، والإتيان بمزيد من الأدلة والوقائع وإيراد النصوص من الكتاب والسنة والسيرة للبرهنة على ذلك، الأمر الذي ما نزال نبدي ونعيد فيه ونعاود إنتاج الكلام السابق، في الوقت الذي يستمر فيه واقع الإنسان وكرامته وحقوقه في بلاد المسلمين على ما نعلم جميعا، بينما نرى ( الآخر ) الذي ملأت تاريخه المآسي وقامت فلسفته وثقافته على التمييز والعنصرية ، خطا في موضوع إقرار حقوق الإنسان خطوات لافتة حقا، حتى كادت تترسخ وتصبح ثقافة اجتماعية بل أعرافا وتقاليد اجتماعية تغري الناس، وقد تفتن كثيرا من العاجزين عن التفريق بين الصورة والحقيقة، وتجذب الهاربين من الظلم والاستبداد، حتى من عالم المسلمين.

لقد بلغ ( الآخر ) شأوا بعيدا في تأسيس المنظمات والجمعيات والمواثيق ووسائل الإعلام وتوظيفها جميعا لفضح الاستبداد ومحاصرته وكشفه، حتى تجاوز ذلك عندها الحدود الإقليمية إلى الأفق العالمية، فمنظمات حقوق الإنسان أصبحت اليوم تمثل الملاذ الآمن ومحل الاستنجاد لكل مضطهد ومظلوم ومطارد، خاصة في عصر العولمة حيث تجاوزت وسائل هـذه المؤسسات السدود والحدود وجميع أشكال الرقابة والتعتيم، الذي يفرضه الظالمون على ممارساتهم. [ ص: 12 ]

لقد أصبح الظالمون يخشونها، ويحسبون لها ألف حساب، خاصة وأن هـذه المؤسسات استوطنت في أماكن آمنة تحميها من التغول والاستبداد والظلم، ولقد استخدمت ووظفت التقنيات الحديثة كافة، سواء في مجال الإنترنت أو الفضائيات ، لتعقب الظلم والاضطهاد، فأصبحت تقاريرها وأخبارها تتنزل كالصواعق على رءوس الظالمين، في الوقت الذي تتيح فيه للمظلومين والمضطهدين أوعية لبث الشكوى وبيان الممارسات الطاغية.

وقد يكون صحيحا، إلى حد بعيد، وجود بعض الإصابات والانتهاكات من قبل المؤسسات العنصرية والتمييزية، التي بدأت تستيقظ في تلك البلاد، إلا أن ذلك قد يكون طبيعيا، ذلك أن الشر من لوازم الخير، لكن العطاء بالمطلق كانت محصلته لصالح حقوق الإنسان.

وهذه المؤسسات الحامية لحقوق الإنسان، ماضية في تحقيق أهدافها، تتقدم كل يوم، وتبدع وسائل جديدة في كشف الظلم والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، حتى بالإمكان القول: بأنه قد توفر لها من السلطة وأدوات وأوراق الضغط على الظالمين الشيء الكثير، مما أدى إلى محاصرة الظلم وتخفيف الكثير منه نسبيا.

ولذلك فلا مندوحة لنا من الإشارة إلى أننا في عالم المسلمين، بشكل عام، تحولنا عن التفكير في إبداع وسائل وأدوات وأوعية عملية تؤسس لحقوق الإنسان وتنميها وتكسب مواقع جديدة لمحاصرة انتهاكها إلى هـدر [ ص: 13 ] الجهد في البرهنة على إقرارها في القيم الإسلامية، الذي أصبح -فيما نرى- من المسلمات التي لم تعد تحتاج استزادة لمستزيد، لدرجة يمكن أن يؤدي التكرار وإعادة الإنتاج إلى الحط من قدر هـذه القيم.

لقد تحولت هـذه القيم في واقعنا إلى شعارات ولم تعد شعائر للممارسة، وفي أحسن الأحوال يمكن القول: بأننا في عالم المسلمين لم نتقدم خطوة واحدة على الطريق، من عقود بعيدة، على الرغم من الاستبداد السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان وبروز الكثير من المتألهين والمستبدين، حيث ما تزال تتسع المسافة بين القول والفعل على المستويات كافة، وكأن أنظمة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي أصبحت وقفا على عالم المسلمين.

وقد نقول: إن من لوازم إقرار الحقوق وحمايتها والإغراء بها عند ( الآخر ) العمل على انتهاكها ومطاردتها في عالم المسلمين، ولا أدل على ذلك من أن الكثير من الأنظمة، التي ترفع شعار الديمقراطية وتمارسها في بلادها، لا تتورع عن مساندة أنظمة الاستبداد السياسي، الذي هـو رأس الشر كله في بلاد المسلمين، حيث أصبحت الدولة بكل مهماتها ووظائفها هـي أشبه بمخافر وأجهزة أمنية، حتى ولو لبس بعض القائمين على أمرها لبوسا مدنية وسمحوا بقيام مؤسسات مجتمع مدني شكلية، كنوع من المحاكاة وذر الرماد بالعيون، لكنها تحت السيطرة، لتتم بذلك الفتنة الثقافية، فيتحقق الجذب من هـناك والطرد من هـنا، بحيث تستمر الغلبة الحضارية. [ ص: 14 ]

ولم يعد ذلك يقتصر على مستوى الأعمال والأشياء والممارسات وإنما تجاوز ذلك إلى احتلال الأفكار وصناعة الفلسفات ليحدث شرخا ثقافيا في حياتنا وتعاطينا لقضايانا، لدرجة يمكن معها القول: بأن مساحة الكتب التي تتحدث عن حقوق الإنسان في الإسلام، وما حققه الإسلام من السبق الحضاري، وإقرار حقوق المرأة، في المكتبة الثقافية الإسلامية من قرون، بكل شعبها المعرفية، تكاد تستغرق الإنتاج كله، وكأن القضية ما تزال بحاجة إلى مزيد من البرهنة والإقناع وإيراد النصوص والوقائع، في الوقت الذي قد لا نجد كتابا واحدا يتحدث عن تطوير وإبداع أدوات ووسائل وأوعية وكيفيات تأصيل وتأسيس ممارسة حقوق الإنسان في واقع المسلمين من خلال الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، والإقدام على قراءة الواقع بدقة، ومن ثم تحديد العمل الممكن، في هـذه المرحلة، وبعد ذلك نجد كيف يصبح الصعب ممكنا والمستحيل صعبا، وهكذا.

ولعلنا نقول: إن أدواتنا ووسائلنا ومواقعنا ومواجهاتنا العشوائية قد ساهمت سلبيا، وإلى حد بعيد، في قيام وصناعة الطواغيت السياسية والدينية والاقتصادية.

لقد أسقطنا بتعاطينا لقضية حقوق الإنسان كل الوسائل والأدوات الممكنة والمجدية والمتاحة، وضيقنا واسعا ولم نبصر إلا أدوات المواجهة المسلحة، والوقوع بردود فعل لممارسة ما تنكرنا له نفسه، الأمر الذي حمل الطواغيت على مزيد من العنف والاستبداد وخنق الحريات، كثمرة لعقدة [ ص: 15 ] الخوف من هـذه الصور المخيفة من ممارسات بعض المسلمين، فهل نحن صنعنا الاستبداد بصنعنا وأدواتنا ودفعنا خصومنا لأن يكونوا ظالمين، حماية لأنفسهم منا، وكنا السبب الرئيس لحملهم على ظلمنا؟

إن الوسائل التي تملكها الأمم اليوم في الضغط، مما وفرته التقنيات الحديثة، أكبر وأكثر فاعلية من أدوات ووسائل الدول الظالمة والخائبة والساقطة، من أدوات متنوعة للاحتجاجات، وممارسة العصيان المدني السلمي، وفضح وسائل الطغاة، وإقامة مؤسسات حقوق الإنسان، وتقديم التقارير الموثوقة الموثقة ونشرها في العالم، الذي أصبح دولة واحدة والمساهمة في إقامة مؤسسات المجتمع المدني، وتشكيل الروابط، والنقابات، وغير ذلك كثير، أما أننا لا نبصر إلا المغالبة على السلطة والمواجهة بالسلاح فقد تكون تلك في أكثر الظروف هـي وسيلة الحمقى والعاجزين وفاقدي البصيرة.

فكم من الفراغات والمجالات التي نملكها، وكم من دوائر الخير المتاحة، والمواقع المعطلة، والتخصصات الغائبة، التي نملكها ونستطيع توظيفها وتفعيل أدائها، لدرجة يمكن لنا معها عزل الاستبداد عن التأثير في ضمير الأمة، فنطاردها أو نغفل عنها ونلجأ إلى الوسائل التي قد تملكنا ولا نملكها من المواجة والمغالبة، والتحول عن العقل إلى الساعد، فنكرس الظلم ومعادلة الاستبداد ونمكن لانتهاك حقوق الإنسان. [ ص: 16 ]

لقد شكل هـذا ثقافة ليست أقل ظلما واعتداءا، فأصبح ظلم يقاتل ظلما.

وبذلك لم تعد المنظمات والجماعات والأحزاب، التي تشكل المعارضة أو البديل المأمول، أحسن حالا من أنظمة الاستبداد نفسها، فكل يستبد بمواقعه، لدرجة وكأن مناخ الحرية لم يعد يناسبنا، بل لقد أصبحت الحرية في بعض البلاد، التي قد نهاجر إليها هـربا من الاستبداد، فرصة للعبث والاعتداء، وميدانا لممارسة التدين المغشوش والفكر المعوج.

وفي تقديري، أنه بعد هـذه التجارب المريرة والمآسي الكبيرة لا بد من إعادة النظر بأدوات وكيفيات ووسائل وفقه أبعاد الخروج على الحاكم الظالم، ومعاودة النظر في المصالح والمفاسد، في ضوء الأوعية والمجالات المتاحة...

إن إشكالية حقوق الإنسان، تاريخيا، تتجلى ابتداء في شهوة الحكم والتنازع على السلطة والمغالبة عليه، واستباحة كل ما يمكن من الوصول إليها والاحتفاظ بها، لذلك تضحى في سبيل السلطة بكل خلق ودين وقرآن ونسب وصلة وحزبية.. فمؤسسات الحكم بطبيعتها، وعلى الأخص الأنظمة الاستبدادية منها، تشكل حقوق الإنسان العدو الأول لها، وعلى رأسها حق الحرية؛ لأنها تعتقد أن هـذا الحق يهدد وجودها ويعمل على انتزاع سلطانها، لذلك تقف له بالمرصاد، وتطارده في كل مكان، وقد تصنع أنماطا من حرية الرأي تحت السيطرة، تسمح لها ببعض التجاوزات، لكن لتصب في مصلحتها في المحصلة النهائية. [ ص: 17 ]

وفي تقديري، ما لم تؤسس وتؤصل أحكاما وأعرافا وتقاليدا وقواعد وأدوات كيفية الوصول إلى الحكم، وكيفية تداول السلطة بالطرق السلمية والمشروعة، فسوف تستمر رحلة العذاب والنزاع والشقاء والمطاردة... إلخ وانتهاك حقوق الإنسان.

ولا شك أن البلاد أو الدول، التي تحتل فيه حقوق الإنسان اليوم مساحات مقبولة، ويجد عندها الإنسان نفسه، ويتمتع بإنسانيته، مرت بمخاض عسير واقتتال وحروب ومنازعات وانقلابات وتحزبات كلفتها الكثير حتى توضعت على قواعد وبرامج وأدوات متاحة للمنافسة في اختيار الحاكم، وباتت الانتخابات أو الأدوات الموصلة لذلك قواعد ثابتة وأعرافا سياسية واجتماعية محترمة من الجميع تقريبا، وقد تصيبها بعض الخروقات، لكنها بعمومها تبقى ضمن التنافس السلمي أو التداول السلمي للسلطة، وهذا حقق الكثير من وصول الكفاءات المقدورة لمراكز الحكم والقرار، كما حقق الكثير من الحماية لحقوق الإنسان؛ لأن حمايتها هـي من بعض الوجوه الطريق إلى السلطة، وبذلك ارتقت الحقوق وتأصلت ونمت وأصبحت في تلك المجتمعات وكأنها بدهيات يستنكر العدوان عليها.

لذلك، فمعاودة الحديث عن إقرار الإسلام لحقوق الإنسان، والحديث عن اعتماد قيمة الشورى كأساس لاختيار الحاكم وإدارة شئون الحكم، دون اتباع ذلك بالفقه السياسي والاجتهاد المفتوح لوضع البرامج والقواعد الناظمة والأصول الضابطة والأعراف والتقاليد والأدوات الممكنة من ذلك [ ص: 18 ] لتصبح ثقافة سياسية للمجتمع يتواضع عليها ويرضى بها، تبقى قيما عامة وأخشى أن تصبح عائمة يدعيها كل إنسان حتى المستبد (!)

وهنا قضية لا مناص من التوقف عندها، وهي أن وجود قيم ضابطة لحقوق الإنسان ومسئوليته في الرقابة العامة ووجوب مناصحة الحاكم وتقويم اعوجاجه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقوام السلطة وبيان طبيعتها وتحديد مسئوليتها ومسئولية الفرد تجاهها، لا يعني بحال من الأحوال وجود البرامج والأصول والقواعد والأدوات الموصلة إلى السلطة، الحائلة دون التنازع عليها وتعدد الرؤى والاجتهادات حولها.

لذلك نعتقد أن غياب الفقه السياسي المنوط به التقعيد والتأصيل والتعريف وإبداع الأدوات وتحديد ميدان التنافس السلمي المشروع للوصول إلى السلطة، أدى إلى الأخطار التي كانت ولا تزال تجتاح عالم المسلمين، وتحوله السلطات والمعارضة إلى معسكرات مستنفرة دائما خوفا من الانقضاض عليها لانتزاع السلطة.

إن قيمة الشورى في اختيار الحاكم، والشورى في إدارة شئون الحكم، ومسئولية الحاكم، ومسئولية المواطن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بالحق، قد لا تجدي شيئا إذا لم تؤطر بأدوات ووسائل وبرامج وأصول للعمل في مناصحة الحاكم والعمل على تداول السلطة بشكل تنافسي سليم. وإذا لم يتوفر ذلك، كما هـو الحال، تصبح الشورى، التي هـي قيمة عليا اختيار الحاكم وإدارة شئون الحكم، وسيلة ابتزاز وادعاء من كل [ ص: 19 ] ظالم ومستبد وحاكم مطلق.. وليس عيبا أن نعترف بالحقيقة ونقول: لقد سبقنا في الفقه السياسي والإداري، واستقرت في ضوء ذلك مجتمعات، وتقررت حقوق مواطنة، في الوقت الذي ما نزال نعيش التنازع والمغالبة على السلطة، بل لقد انتجت برامج ووسائل للاحتجاج، والإضراب، وكشف الخطأ، وفضح الممارسات الظالمة والفاحشة، حتى وصلت اليوم في بعض بلدان العالم لتشكل سلطة بل سلطات أقوى من سلطة الحاكم.

إن الخروج المسلح على الحاكم تاريخيا، وعدم إبصار أية وسيلة غير ذلك، لم يحمل للأمة الخير، وإنما جاء معه الشر المستطير والمزيد من الاستبداد وهدر حقوق الإنسان، على الرغم مما يمكن أن يكون من طيبة نوايا الخارجين وصدقهم وصواب رؤيتهم.

لذلك وفي ضوء تلك المفاسد الكبيرة جاءت بعض الفتاوى، التي يمكن أن نعنون لها بقاعدة: " درء المفاسد أولى من جلب المفاسد " ، واعتماد مبدأ " سد الذرائع " ، و " ارتكاب أخف الضررين " لتقول: بأنه لا يجوز الخروج على الحاكم ما أقام الصلاة، أو ما لم نجد كفرا بواحا، حتى كاد بعض من لا يدركون أبعاد الصورة تماما يصنفون هـذه الفتاوى بفتاوى السلطان أو يجيرونها لمصلحة الأنظمة الاستبدادية.

ويمكن أن تصنف في السياق نفسه ما أفتى بعض العلماء من الإقرار بمشروعية الغلبة في الأحقية بالحكم والسلطة. ولو كان عندنا من الفقه السياسي، الذي أوجد الأدوات والوسائل السلمية من الاحتجاج والإضراب [ ص: 20 ] والحوار والمنافسة والإعلام، وما يترتب على ذلك من درء المفاسد وجلب المصالح، وما إلى ذلك من الأدوات، التي تشكل سلطة قد تكون أكثر نفاذا من سلطة المستبد وأقدر على محاصرته وتعديل سلوكه، لتغيرت تلك الفتاوى بطبيعة الحال.

إضافة إلى أن الذي نريد له أن يكون واضحا أن الظلم والاستبداد ليس محصورا على الشأن السياسي، وإن كان الاستبداد السياسي هـو جماع الإثم كله، وإنما هـناك مجالات وآفاق للعمل والتأسيس للحقوق ومدافعة الظلم قد لا يشعر حكام الاستبداد السياسي بخطورتها؛ لأنها لا تمسهم مباشرة وإن كانت في نهاية المطاف تحاصرهم وتعزلهم عن ضمير الأمة، وتحد من تأثيرهم.

إن المغالبة السياسية، أو الصراع على الحكم، كانت ولا تزال السبب الرئيسى في انتهاك حقوق الإنسان في بلاد المسلمين -كما أسلفنا- وتضييق مساحات الحرية، حتى بات الحاكم المستبد، لشدة خوفه وريبته، يتدخل في حقوق الإنسان الشخصية الفردية الطبيعية، ويرى في الناس أشباحا تطارده لانتزاع السلطة من بين يديه.

وإشكالية النزاع على السلطة، والمغالبة عليها، والخروج المسلح لا تتوقف عند حد، فلا يلبث الخارجون والانقلابيون والثوار من لحظة غلبتهم أن يبدأوا بالتخوف من بعضهم، والتآمر على بعضهم، وممارسة التصفيات الجسدية للشركاء في الثورة ورفقاء السلاح، حتى قد تطال تلك [ ص: 21 ] التصفيات وتمتد إلى الإخوة والأقرباء، حيث تصدق فيهم مقولة: الثورات كالهرة تأكل أبناءها.

فهل نعيد النظر بوسائلنا في الإصلاح والتغيير، ونختبر جدواها، ونقوم فاعليتها، ونحاول تطويرها واستبدالها، ولا نرى عيبا أن نفيد مما توصلت إليه الأمم الأخرى من وسائل وأدوات لبناء الحكم، والاشتراك فى إدارة شئونه، واختيار الحاكم، وممارسة الرقابة العامة، وتشريع الضمانات، وتربية الضمائر، حتى لا تنتهك حقوق الإنسان؟

والتاريخ يقدم لنا من الشواهد والأمثلة الكثير: كيف أن الأقلام في كثير من المعارك أسقطت السيوف، واستطاع الإعلام بما يمتلكه من " قوة مرنة " أن يسقط كثيرا من أكبر الحكام وأعتاهم دون إراقة قطرة دم واحدة.. إن وسائل السلم واللاعنف التي تشكل " القوة المرنة " ، كانت ولا تزال الأكثر فاعلية، على المدى البعيد، في تفكيك الظلم والجور من المواجهات المسلحة، التي أزمت حقوق الإنسان، وكانت سببا في تراجعها وتضييقها وانتهاكها، بل لعلنا نقول: إن الخروج المسلح والمواجهة هـي التي تقدم للحاكم المستبد مسوغات الظلم وتشريعات الطوارئ وإلغاء الحريات والحقوق.

إن بناء الرأي العام المتحصن بثقافة الحرية وحقوق الإنسان هـو القادر على محاصرة الظلم والاستبداد وإسقاط رموزه، ولا يتسع المجال هـنا للأمثلة [ ص: 22 ] الكثيرة، والكثيرة جدا، لكن تبقى هـذه الآفاق والآماد عصية على الممارسة؛ لأنها تستدعي الكثير من الصبر والتبصر والنظر فى العواقب البعيدة وضبط النفس وعدم الانسياق وراء رد الفعل؛ لأن الظالمين والمستبدين قد يحرجونا ويستفزونا ليخرجونا فينكلوا بنا.. إن الصبر والمصابرة وامتلاك النفس عند الغضب والتبصر يعتبر من ( الجهاد الأكبر ) ،

يقول تعالى:

( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار ) (ق:50) ،

( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) ( الفرقان:52 ) ،

لكن تبقى الإشكالية والمواجهة، ويكاد أن يصبح ذلك الزاد الثقافي لكثير من الجماعات المعارضة، حتى باتت تقرأ الحضارة الإسلامية بحاسة انتقائية من خلال معاناتنا وأزماتنا على أنها حضارة مغالبة ومجاهدة ومواجهة وقتال.

فلو أعدنا النظر وتحصنا بالمعرفة " القوة المرنة " ، واستبدلنا الأقلام بالأسلحة، وأبصرنا وسائلنا الفاعلة في التغيير والتأسيس والتعاطي مع الواقع، لترسيخ الحق والعدل والحرية، التي تمكن من إيصال الإسلام إلى الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، لما استطاع أحد هـزيمتنا؛ لكن يؤسفنا أن نقول: إننا نوقع على هـزيمتنا بأيدينا، وبأفعالنا، ونكرس، دون أن ندري، ممارسات القمع وهدر حقوق الإنسان، ويستمر فينا قول الشاعر:

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

[ ص: 23 ] وكأن التباري والمنازلة إنما ميدانها هـو الجهل، دون أن ندري أن الجهل ظلم وظلام واستبداد وتعطيل لإنسانية الإنسان، وأن المعرفة هـي مفتاح النصر وبناء الحضارة.

والغريب العجيب أن تعاطينا لموضوع معالجة الاستبداد وإهدار حقوق الإنسان يتردد بين المواجهة غير المدروسة وغير المتكافئة وغير المحسوبة النتائج، من حيث ما يترتب عليها من المصالح والمفاسد، وبين الاستسلام الكامل لشيوع الظلم والاستبداد تحت ذرائع شتى، قد تكون مصنوعة أساسا لصالح المستبد، ومحذرة من مفاسد المواجهة والخروج، وداعية إلى السمع والطاعة لولي الأمر -دون اختبار لولي الأمر- حتى ولو اقتصر على السماح بإقامة الصلاة.

وسوف نبقى نمارس بوسائلنا تكريس الظلم وتمكين انتهاك حقوق الإنسان والاكتفاء بالحديث عن عظمة الإسلام وسبقه وإقراره لحقوق الإنسان عن اكتشاف الوسائل والممارسات المجدية لحماية هـذه الحقوق.. إننا بذلك نمارس طحن الماء، ومحاولة قبض الهواء، والمراوحة في موقعنا، وإنهاك قوانا في أفعال غير مجدية، تحت شعارات قد تكون خادعة، لتلبسها بالقيم الدينية، من مثل: علينا العمل وليس علينا إدراك النتائج، ليس بالإمكان أفضل مما كان.. وهكذا، سوف نبقى مرتهنين للظلم والاستبداد -وبالمناسبة فإن أنظمة القمع والاستبداد ليس أقل ارتهانا وخوفا- ما لم نعد النظر بوسائلنا، ونحاول تطوير أدواتنا وممارساتنا في بناء المؤسسات المدنية وإقامة مواثيق السلم الأهلي، وحشد استخدام الأوعية [ ص: 24 ] الإعلامية والتقنيات الحديثة ووسائل الاتصال والتواصل لكشف وفضح انتهاكات حقوق الإنسان، وبيان أخطار الاستبداد وغياب الحرية عن التنمية الإنسانية، وتفجير الطاقات الفردية، واكتشاف القابليات، وتقديم نماذج جديدة تثير الاقتداء، والعدول عن المغالبة على السلطة والمواجهة مع السلطة ومحاصرة أنفسنا في أنماط من الاستبداد، بحيث تصبح المعارضة هـي الوجه الآخر للسلطة نفسها، بكل ممارساتها؛ حيث المعارضة والسلطة المستبدة وجهان لعملة واحدة.

وهذا إنما يتطلب إعادة المراجعة لواقعنا ووسائلنا في التعامل معه وإعادة تقويم تلك الوسائل، ومن ثم العودة إلى الانخراط في المجتمع والأمة، وتحديد دوائر الخير الموجودة، والتوسع فيها قدر الاستطاعة، وعدم تشكيل أجسام منفصلة عن جسم الأمة وأهدافها والتمحور حول مغالبة السلطة، ومعاودة دراسة وسائل المناصحة والنقد، وحدود فكرة الخروج على الحاكم، وما هـي أدواتها، وما يترتب على هـذه الوسائل من مفاسد ومصالح، وكسر المعادلة الصعبة أو المعضلة التي فرضت علينا بأن الأمة في مواجهة الدولة، أو الشعوب في مواجهة الحكومات، وبناء معادلات جديدة بعيدة عن هـذه التقابلات، التي لم نحصد منها إلا الصاب والعلقم واستنزاف القوة وهدر الإمكانات، التي انتهت بنا إلى التخلف، على مستوى الدولة والأمة معا.

ونعود إلى القول: إنه لا بد من التفكير بكيفية التغيير والتحويل، وإبداع أدوات التحويل من خلال الاستطاعات المتوفرة والظروف المحيطة؛ من الحديث [ ص: 25 ] عن حقوق الإنسان في الإسلام ومكانتها ونجتهد في إيراد النصوص واكتشاف الدلالات والوقائع، إلى التفكير بوسائل ترسيخ هـذه الحقوق، وإعادة تأسيسها، ووسائل نصرتها وحمايتها، وبناء ثقافتها على مستوى الفرد والمجتمع والأمة والدولة، وكيف نفيد من الكسب العالمي في هـذا المجال، وكيف نوظف التقنيات الحديثة لإلقاء الأضواء الكاشفة على انتهاكات هـذه الحقوق.

وهذا لا يتأتى ما لم يستمر فينا هـاجس التغيير ومحاولة الارتقاء ونستمر في طرح السؤال الكبير:

فإذا كانت قيمنا الإسلامية بهذا الوضوح، وكانت تجربتنا الحضارية التاريخية بهذا التألق والعظمة، وكانت حقوق الإنسان في الإسلام هـي حقوق وواجبات معا، يأثم المسلم بالتواطؤ على انتهاكها، وإذا كان حرية الرأي والإجتهاد مصدر تشريع، وكان السكوت والتستر على غيابها مصدر انقراض للأمة والحضارة، فلماذا أصبح واقعنا بهذ الشكل؟ أين الخلل؟ ولماذا لم تعد القيم الإسلامية تنتج واقعا حرا؟

وإذا كانت قيمة الحرية بشكل عام وفي مقدمتها حرية الرأي تعني كرامة الإنسان، وإنسانية الإنسان، وحياة الإنسان، وأن انتهاكها أشد وأكبر من القتل والقضاء على الحياة،

حيث يقول تعالى: ( والفتنة أشد من القتل ) ( البقرة: 191) ،

وأن فرضية الجهاد في الأصل إنما شرعت لحماية الحرية والدفاع عنها ونشرها،

يقول تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ( الأنفال: 39) ،

وليس الفتنة سوى الإكراه والإجبار وحرمان الإنسان من قيمة [ ص: 26 ] الحرية، فأين العمل على تأصيل وتأسيس هـذه الحرية في مجتمعات المسلمين؟ وأين إبداع الوسائل التي تمكن المسلم من الاضطلاع بمسئوليته على وجه صحيح؟ إن التعسف في استعمال الأحكام الشرعية وتنزيلها على غير محالها يساهم سلبيا بصناعة الفتنة بدل أن يعالجها ويحول دون وقوعها.

وبعد:

فهذا الكتاب يعتبر جهدا مقدورا، يعرض لقضية كانت ولا تزال تشكل المحور الأساس لحياة الإنسان وحركته وكسبه وممارسته لإنسانيته.. تلك القضية التي تبرز رسالة النبوة، ودورها في تحرير الإنسان، وتكشف محاولة التسلط عليه من الملأ والكبراء والطواغيت، وأهمية إدراك دور عقيدة التوحيد في التحرير وتحقيق قيم الحرية وإيقاف تأله وتسلط الإنسان على الإنسان، وأن مدافعة الظلم والطاغوت وتأسيس وتأصيل قيم الحرية والإختيار من أعلى مقاصد الدين ومقامات العبادة.

فالإيمان، كما ورد في حديث الصادق المصدوق: ( بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله ( عقيدة التوحيد والتحرير ) وأدناها إماطة الإذى عن الطريق ( الفعل الإجتماعي ) .. ) ( أخرجه مسلم ) ، فأين المسلم من هـذا الفضاء الواسع للحركة وحمل رسالة النبوة؟ فالمسلم ينزع دائما إلى الصعود إلى الأفضل ( لا إله إلا الله ) إلى التحرر والتحرير، تحرير العالم وإقرار حق الحرية والاختيار، والسؤال المطروح: كيف يتأتى له ذلك دون أن يحرر نفسه من العبوديات لغير الله؟ [ ص: 27 ]

إن القعود عن مناصرة حق الحرية ومدافعة الظلم سبيل لاختلال نظام الحياة وانقراض الأمم والحضارات والإهلاك بالطاغية:

( .. فأهلكوا بالطاغية ) (الحاقة:5) ،

فالناس ( إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) ( أخرجه الترمذي ) .. ذلك أن السكوت على الظلم، والتستر عليه، وإشاعة فلسفة الذل من المعاصي الاجتماعية الخطيرة، التي غفل عنها كثير من المسلمين، فمقصد الدين إنما يتحقق بالحيلولة دون فتنة الإنسان:

( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) (الأنفال:39) .

كما يعرض الكتاب لمكانة حرية الرأي ومنزلتها في الإسلام، لعل ذلك يشكل محرضا يدفع المسلمين إلى الاستشعار بمسئولية التقصير، وإبداع الوسائل ووضع البرامج، واختيار الأدوات التي تجد الحرية من خلالها مكانها في واقعهم البائس، وبذلك يخرجون من عهدة التكليف، ويحققون رضى الله عز وجل وأمن مجتمعاتهم.

وتبقى الإشكالية المطروحة باستمرار: كيف نطور وسائلنا في المدافعة والمحاورة والمناقشة والمجادلة، والمواجهة، لنكون في مستوى إسلامنا تأصيلا لقيم الحرية، وحقوق الإنسان بعامة، ومستوى عصرنا وسيلة وممارسة، لتحقيقها والمدافعة عنها والاستشعار بالمسئولية عن الناس جميعا،

استجابة لقوله تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( الأنبياء: 107) .

ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 28 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية