الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب قول الله تعالى وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل فيه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        1817 حدثنا حجاج بن منهال حدثنا هشيم قال أخبرني حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب قول الله - عز وجل - : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم ساق إلى قوله : إلى الليل وهذه الترجمة سيقت لبيان انتهاء وقت الأكل وغيره الذي أبيح بعد أن كان ممنوعا ، واستفيد من حديث سهل الذي في هذا الباب أن ذكر نزول الآية في حديث البراء أريد به معظمها وهو أن قوله : من الفجر تأخر [ ص: 158 ] نزوله عن بقية الآية مع أنه ليس في حديث البراء التصريح بأن قوله : من الفجر نزل أولا ، فإن رواية حديث الباب فيها إلى قوله : الخيط الأسود ورواية أبي داود وأبي الشيخ فيها إلى قوله : من الفجر ، فيحمل الثاني على أن قوله : من الفجر لم يدخل في الغاية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فيه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم ) يريد الحديث الذي مضى قبله ، وهو موصول كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أخبرني حصين ) روى الطحاوي من طريق إسماعيل بن سالم عن هشيم أنبأنا حصين ومجالد ، وكذا أخرجه الترمذي عن أحمد بن منيع عن هشيم إلا أنه فرقهما .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عدي بن حاتم ) في رواية الترمذي : " أخبرني عدي بن حاتم " وكذا أخرجه ابن خزيمة عن أحمد بن منيع ، وهكذا أورده أبو عوانة من طريق أبي عبيد عن هشيم عن حصين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لما نزلت : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود . عمدت . . . إلخ ) ظاهره أن عديا كان حاضرا لما نزلت هذه الآية ، وهو يقتضي تقدم إسلامه ، وليس كذلك ؛ لأن نزول فرض الصوم كان متقدما في أوائل الهجرة ، وإسلام عدي كان في التاسعة أو العاشرة ، كما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي ، فإما أن يقال : إن الآية التي في حديث الباب تأخر نزولها عن نزول فرض الصوم وهو بعيد جدا ، وإما أن يئول قول عدي هذا على أن المراد بقوله : " لما نزلت " أي : لما تليت علي عند إسلامي ، أو لما بلغني نزول الآية أو في السياق حذف تقديره : " لما نزلت الآية ثم قدمت فأسلمت وتعلمت الشرائع عمدت " . وقد روى أحمد حديثه من طريق مجالد بلفظ : علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة والصيام فقال : صل كذا وصم كذا ، فإذا غابت الشمس فكل حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود . قال فأخذت خيطين الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلى عقال ) بكسر المهملة أي : حبل ، وفي رواية مجالد : " فأخذت خيطين من شعر " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي ) في رواية مجالد : " فلا أستبين الأبيض من الأسود " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال : إنما ذلك ) زاد أبو عبيد : إن وسادك إذا لعريض ، وكذا لأحمد عن هشيم ، وللإسماعيلي عن يوسف القاضي عن محمد بن الصباح عن هشيم : قال فضحك وقال : إن كان وسادك إذا لعريضا وهذه الزيادة أوردها المصنف في تفسير البقرة من طريق أبي عوانة عن حصين وزاد : إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك وفي رواية أبي إدريس عن حصين عند مسلم : إن وسادك لعريض طويل وللمصنف في التفسير من طريق جرير عن مطرف عن الشعبي : إنك لعريض القفا ولأبي عوانة من طريق إبراهيم بن طهمان عن مطرف : فضحك وقال : لا يا عريض القفا .

                                                                                                                                                                                                        قال الخطابي في " المعالم " في قوله : إن وسادك لعريض قولان : أحدهما يريد إن نومك لكثير ، وكنى بالوسادة عن النوم لأن النائم يتوسد ، أو أراد إن ليلك لطويل إذا كنت لا تمسك عن الأكل حتى يتبين لك العقال ، والقول الآخر أنه كنى بالوسادة عن الموضع الذي يضعه من رأسه وعنقه على الوسادة إذا نام ، والعرب تقول : فلان عريض القفا . إذا كان فيه غباوة وغفلة ، وقد روي في هذا الحديث من طريق أخرى : إنك عريض القفا وجزم الزمخشري [ ص: 159 ] بالتأويل الثاني فقال : إنما عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - قفا عدي ؛ لأنه غفل عن البيان ، وعرض القفا مما يستدل به على قلة الفطنة ، وأنشد في ذلك شعرا .

                                                                                                                                                                                                        وقد أنكر ذلك كثير منهم القرطبي فقال : حمله بعض الناس على الذم له على ذلك الفهم ، وكأنهم فهموا أنه نسبه إلى الجهل والجفاء وعدم الفقه ، وعضدوا ذلك بقوله : " إنك عريض القفا " وليس الأمر على ما قالوه ؛ لأن من حمل اللفظ على حقيقته اللسانية التي هي الأصل إن لم يتبين له دليل التجوز لم يستحق ذما ولا ينسب إلى جهل ، وإنما عنى - والله أعلم - أن وسادك إن كان يغطي الخيطين اللذين أراد الله فهو إذا عريض واسع ، ولهذا قال في أثر ذلك : " إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " ، فكأنه قال : فكيف يدخلان تحت وسادتك؟ وقوله : " إنك لعريض القفا " ، أي : إن الوساد الذي يغطي الليل والنهار لا يرقد عليه إلا قفا عريض للمناسبة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وترجم عليه ابن حبان " ذكر البيان بأن العرب تتفاوت لغاتها " وأشار بذلك إلى أن عديا لم يكن يعرف في لغته أن سواد الليل وبياض النهار يعبر عنهما بالخيط الأسود والخيط الأبيض . وساق هذا الحديث . قال ابن المنير في " الحاشية " : في حديث عدي جواز التوبيخ بالكلام النادر الذي يسير فيصير مثلا بشرط صحة القصد ووجود الشرط عند أمن الغلو في ذلك ، فإنه مزلة القدم إلا لمن عصمه الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية