الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة ؛ الآية؛ تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من بهيمة الأنعام؛ والميتة: كل حيوان له نفس سائلة؛ خرجت نفسه من جسده على غير طريق الذكاة المشروع؛ سوى الحوت؛ والجراد؛ على أن الجراد قد رأى كثير من العلماء أنه لا بد من فعل فيها يجري مجرى الذكاة؛ وقرأ جمهور الناس: "الميتة بسكون الياء؛ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: "الميتة"؛ بالتشديد في الياء؛ قال الزجاج : هما بمعنى واحد؛ وقال قوم من أهل اللسان: "الميت"؛ بسكون الياء: ما قد مات؛ و"الميت"؛ يقال لما قد مات؛ ولما لم يمت وهو حي بعد؛ ولا يقال له: "ميت"؛ بالتخفيف؛ ورد الزجاج هذا القول؛ واستشهد على رده بقول الشاعر:


ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء



[ ص: 95 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والبيت يحتمل أن يتأول شاهدا عليه؛ لا له؛ وقد تأول قوم "استراح"؛ في هذا البيت بمعنى "اكتسب رائحة"؛ إذ قائله جاهلي؛ لا يرى في الموت راحة.

وقوله تعالى: "والدم"؛ معناه: "المسفوح"؛ لأنه بهذا تقيد الدم في غير هذه الآية؛ فيرد المطلق إلى المقيد؛ وأجمعت الأمة على تحليل الدم المخالط للحم؛ وعلى تحليل الطحال؛ ونحوه؛ وكانت الجاهلية تستبيح الدم؛ ومنه قولهم: "لم يحرم من فصد له"؛ و"العلهز": دم؛ ووبر يأكلونه في الأزمات.

و "ولحم الخنزير"؛ مقتض لشحمه؛ بإجماع؛ واختلف في استعمال شعره؛ وجلده بعد الدباغ؛ فأجيز؛ ومنع؛ وكل شيء من الخنزير حرام بإجماع؛ جلدا كان أو عظما.

وقوله تعالى: وما أهل لغير الله به ؛ يعني ما ذبح لغير الله تعالى؛ وقصد به صنم؛ أو بشر من الناس؛ كما كانت العرب تفعل؛ وكذلك النصارى؛ وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به؛ فذلك إهلاله؛ ومنه استهلال المولود إذا صاح عند الولادة؛ ومنه إهلال الهلال؛ أي: الصياح بأمره عند رؤيته؛ ومن الإهلال قول ابن أحمر:


يهل بالفرقد ركبانها ...     كما يهل الراكب المعتمر



[ ص: 96 ] وقوله تعالى: "والمنخنقة"؛ معناه: التي تموت خنقا؛ وهو حبس النفس؛ سواء فعل بها ذلك آدمي؛ أو اتفق لها ذلك في حجر؛ أو شجرة؛ أو بحبل؛ أو نحوه؛ وهذا بإجماع؛ وقد ذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها؛ فإذا ماتت أكلوها؛ وذكر نحوه ابن عباس - رضي الله عنهما.

و "والموقوذة": التي ترمى أو تضرب بعصا؛ أو بحجر؛ أو نحوه؛ وكأنها التي تحذف به؛ وقال الفرزدق :


شغارة تقذ الفصيل برجلها ...     فطارة لقوادم الأبكار



وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "الموقوذة": التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت؛ وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونها.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ومن اللفظة قول معاوية : "وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الورع؛ وكفى أمره ونزوته"؛ وقال الضحاك : "كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم - حتى يقتلوها - فيأكلونها"؛ وقال أبو عبد الله الصنابحي : "ليس الموقوذة إلا في مالك ؛ وليس في الصيد وقيذ".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وعند مالك وغيره من الفقهاء في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ؛ وهو نص في قول النبي - صلى اللـه عليه وسلم - في المعراض: "وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ". [ ص: 97 ] و "والمتردية": هي التي تتردى من العلو؛ إلى السفل؛ فتموت؛ كان ذلك من جبل؛ أو في بئر؛ ونحوهما؛ هي "متفعلة"؛ من "الردى"؛ وهو الهلاك؛ وكانت الجاهلية تأكل المتردي؛ ولم تكن العرب تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع؛ ونحو ذلك؛ دون سبب يعرف؛ فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة؛ فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة؛ وبقيت هذه كلها ميتة.

و "والنطيحة": "فعيلة"؛ بمعنى "مفعولة"؛ وهي الشاة تنطحها أخرى؛ أو غير ذلك؛ فتموت؛ وتأول قوم "النطيحة"؛ بمعنى "الناطحة"؛ لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان؛ وقال قوم: لو ذكر الشاة لقيل: "والشاة النطيح"؛ كما يقال: "كف خضيب"؛ و"لحية دهين"؛ فلما لم تذكر ألحقت الهاء لئلا يشكل الأمر: أمذكرا يريد أم مؤنثا؟ قال ابن عباس ؛ والسدي ؛ وقتادة ؛ والضحاك : النطيحة: الشاة تناطح الشاة؛ فتموتان؛ أو الشاة تنطحها البقر والغنم.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وكل ما مات ضغطا فهو نطيح؛ وقرأ أبو ميسرة: "والمنطوحة".

وقوله: وما أكل السبع ؛ يريد كل ما افترسه ذو ناب؛ وأظفار من الحيوان؛ كالأسد؛ والنمر؛ والثعلب؛ والذئب؛ والضبع؛ ونحوه؛ هذه كلها سباع؛ ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد؛ وكان العرب إذا أخذ السبع شاة فقتلها؛ ثم خلصت منه أكلوها؛ وكذلك إن أكل بعضها؛ قاله قتادة وغيره؛ وقرأ الحسن؛ والفياض؛ وطلحة بن سليمان؛ وأبو حيوة: "وما أكل السبع"؛ بسكون الباء؛ وهي لغة أهل نجد؛ وقرأ بذلك عاصم في رواية أبي بكر عنه؛ وقرأ عبد الله بن مسعود : "وأكيلة السبع"؛ وقرأ عبد الله بن عباس : "وأكيل السبع".

واختلف العلماء في قوله تعالى: إلا ما ذكيتم ؛ فقال ابن عباس : والحسن بن أبي الحسن؛ وعلي بن أبي طالب ؛ وقتادة ؛ وإبراهيم النخعي ؛ وطاوس ؛ [ ص: 98 ] وعبيد بن عمير ؛ والضحاك ؛ وابن زيد ؛ وجمهور العلماء: الاستثناء هو من هذه المذكورات؛ فما أدرك منها يطرف بعين؛ أو يمصع برجل؛ أو يحرك ذنبا؛ وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه؛ بل له حياة؛ فإنه يذكى على سنة الذكاة؛ ويؤكل؛ وما فاضت نفسه فهو في حكم الميتة بالوجع؛ ونحوه؛ على ما كانت الجاهلية تعتقده؛ وقال مالك - رحمه الله - مرة بهذا القول؛ وقال أيضا - وهو المشهور عنه؛ وعن أصحابه من أهل المدينة -: إن قوله تعالى: "إلا ما ذكيتم"؛ معناه: من هذه المذكورات؛ في وقت تصح فيه ذكاتها؛ وهو ما لم تنفذ مقاتلها؛ ويتحقق أنها لا تعيش؛ ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فقال بعض المفسرين: إن الاستثناء في قول الجمهور متصل؛ وفي قول مالك منقطع؛ لأن المعنى عنده: "لكن ما ذكيتم مما تجوز تذكيته فكلوه"؛ حتى قال بعضهم: إن المعنى: "إلا ما ذكيتم من غير هذه فكلوه"؛ وفي هذا عندي نظر؛ بل الاستثناء على قول مالك متصل؛ لكنه يخالف في الحال التي تصح فيها ذكاة هذه المذكورات؛ وقال الطبري : إن الاستثناء عند مالك من التحريم؛ لا من المحرمات.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وفي هذه العبارة تجوز كثير؛ وحينئذ يلتئم المعنى.

والذكاة في كلام العرب: الذبح؛ قاله ثعلب؛ قال ابن سيدة: والعرب تقول: "ذكاة الجنين ذكاة أمه".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا إنما هو حديث.

و"ذكى الحيوان": ذبحه؛ ومنه قول الشاعر:


يذكيها الأسل



[ ص: 99 ] ومما احتج به المالكيون لقول مالك : "إن ما تيقن أنه يموت من هذه الحوادث فهو في حكم الميتة"؛ أنه لو لم تحرم هذه التي قد تيقن موتها إلا بأن تموت؛ لكان ذكر الميتة أولا يغني عنها؛ فمن حجة المخالف أن قال: إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة؛ فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميتة الوجع؛ حسبما كانت هي عليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية