الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 151 ] ما قول السادة العلماء أئمة الدين في من ينزل به حاجة من أمر الدنيا أو الآخرة ثم يأتي قبر بعض الأنبياء أو غيره من الصلحاء ثم يدعو عنده في كشف كربته . فهل ذلك سنة أم بدعة ؟ وهل هو مشروع أم لا ؟ فإن كان ما هو مشروع فقد تقضى حوائجهم بعض الأوقات فهل يسوغ لهم أن يفعلوا ذلك ؟ وما العلة في قضاء حوائجهم ؟ أفتونا .

                التالي السابق


                فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله الحمد لله رب العالمين . ليس ذلك سنة ; بل هو بدعة لم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا من أئمة الدين الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم ولا أمر بذلك ولا استحبه : لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا أئمة الدين ; بل لا يعرف هذا عن أحد من أهل العلم والدين من القرون المفضلة التي أثنى عليها رسول الله : من الصحابة والتابعين وتابعيهم لا من أهل الحجاز ولا من اليمن ولا الشام ولا العراق ولا مصر ولا المغرب ولا خراسان ; وإنما أحدث بعد ذلك .

                [ ص: 152 ] ومعلوم أن كل ما لم يسنه ولا استحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم فإنه يكون من البدع المنكرات ولا يقول أحد في مثل هذا إنه بدعة حسنة ; إذا البدعة الحسنة - عند من يقسم البدع إلى حسنة وسيئة - لا بد أن يستحبها أحد من أهل العلم الذين يقتدى بهم ويقوم دليل شرعي على استحبابها وكذلك من يقول : البدعة الشرعية كلها مذمومة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { كل بدعة ضلالة } ويقول قول عمر في التراويح : " نعمت البدعة هذه " إنما أسماها بدعة : باعتبار وضع اللغة . فالبدعة في الشرع عند هؤلاء ما لم يقم دليل شرعي على استحبابه . ومآل القولين واحد ; إذ هم متفقون على أن ما لم يستحب أو يجب من الشرع فليس بواجب ولا مستحب ; فمن اتخذ عملا من الأعمال عبادة ودينا وليس ذلك في الشريعة واجبا ولا مستحبا فهو ضال باتفاق المسلمين .

                وقصد القبور لأجل الدعاء عندها رجاء الإجابة : هو من هذا الباب فإنه ليس من الشريعة : لا واجبا ولا مستحبا ; فلا يكون دينا ولا حسنا ولا طاعة لله ولا مما يحبه الله ويرضاه ولا يكون عملا صالحا ولا قربة ومن جعله من هذا الباب فهو ضال باتفاق المسلمين .

                [ ص: 153 ] ولهذا : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بهم الشدائد وأرادوا دعاء الله لكشف الضر أو طلب الرحمة : لا يقصدون شيئا من القبور لا قبور الأنبياء ولا غير الأنبياء حتى إنهم لم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم بل قد ثبت في " صحيح البخاري " عن أنس : أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب قال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن دينار قال سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب :

                وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

                وفيه عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فيما ينزل حتى يجيش له ميزاب :

                وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

                وهو قول أبي طالب وكذلك معاوية بالشام استسقوا بيزيد بن الأسود الجرشي .

                وكانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم " يأتون إليه ويطلبون [ ص: 154 ] منه الدعاء يتوسلون به ويستشفعون به إلى الله ; كما أن الخلائق يوم القيامة يأتون إليه يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله ثم لما مات وأصابهم الجدب عام الرمادة في خلافة عمر وكانت شدة عظيمة أخذوا العباس فتوسلوا به واستسقوا به بدلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأتوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعون عنده ولا استسقوا به ولا توسلوا به . وكذلك في الشام لم يذهبوا إلى ما فيها من القبور ; بل استسقوا بمن فيهم من الصالحين ومعلوم أنه لو كان الدعاء عند القبور والتوسل بالأموات مما يستحب لهم لكان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل من التوسل بالعباس وغيره . وقد كانوا يستسقون على " ثلاثة أوجه " تارة : يدعون عقب الصلوات . وتارة : يخرجون إلى المصلى فيدعون من غير صلاة وتارة يصلون ويدعون . والوجهان الأولان مشروعان باتفاق الأمة . والوجه الثالث مشروع عند الجمهور ; كمالك والشافعي وأحمد . ولم يعرفه أبو حنيفة .

                وقد أمروا في الاستسقاء بأن يستسقوا بأهل الصلاح ; لا سيما بأقارب النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل الصحابة . وأمروا بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه . ولم يأمر أحد منهم بالاستسقاء عند شيء من قبور الأنبياء ولا غير الأنبياء ولا الاستعانة [ ص: 155 ] بميت والتوسل به ونحو ذلك مما يظنه بعض الناس دينا وقربة . وهذا فيه دلالة للمؤمن على أن هذه محدثات لم تكن عند الصحابة من المعروف بل من المنكر .



                فصل وهذا كاف لو لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من النهي ما يدل على النهي عن ذلك ; كيف وسنته المتواترة تدل على النهي عن ذلك . مثلما في الصحيحين عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه : { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ولولا ذلك أبرز قبره ; غير أنه خشي - أو خشي - أن يتخذ مسجدا . وهذا بعض ألفاظ البخاري وفي الصحيحين أيضا عن عائشة قالت : { لما كان مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة . يقال لها مارية وذكرن من حسنها وتصاوير فيها فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه وقال : إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله } .

                [ ص: 156 ] وهذا المعنى مستفيض عنه في الصحاح والسنن والمسانيد من غير وجه . وفي صحيح مسلم عن جندب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يموت بخمس : { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور - أو قال - قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } وفيه : { لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله } وهذا المعنى في الصحيحين من وجوه وفيه : { لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت ; إلا خوخة أبي بكر } . بين هذين الأمرين اللذين تواترا عنه وجمع بينهما قبل موته بخمسة أيام : من ذكر فضل أبي بكر الصديق ومن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد فبهما حسم مادة الشرك التي أفسد بها الدين وظهر بها دين المشركين . فإن الله قال في كتابه عن قوم نوح : { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا } .

                وقد روى البخاري في صحيحه بإسناده عن ابن عباس قال : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب تعبد ; أما ( ود : فكانت لكلب بدومة الجندل وأما ( سواع : فكانت لهذيل وأما ( يغوث : فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما ( يعوق : فكانت لهمدان وأما ( نسر : فكانت لحمير لآل ذي [ ص: 157 ] الكلام ; وكانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا : أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت .

                وقد ذكر قريبا من هذا المعنى طوائف من السلف في " كتب التفسير " . و " قصص الأنبياء " وغيرها : أن هؤلاء كانوا قوما صالحين . ثم منهم من ذكر أنهم كانوا يعكفون على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ومنهم من ذكر أنهم كانوا يصحبون تماثيلهم معهم في السفر يدعون عندها ولا يعبدونها ثم بعد ذلك : عبدت الأوثان .

                ولهذا : جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين القبور والصور ; في غير حديث كما في صحيح مسلم عن { أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته } . فأمره بمحو الصور وتسوية القبور كما قال في الحديث الآخر الصحيح : { إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة } .

                والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن اتخاذ [ ص: 158 ] القبور مساجد والصلاة في المقبرة : كثيرة جدا مثل ما في الصحيحين والسنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } وعن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد } رواه أحمد في المسند وأبو حاتم بن حبان في صحيحه . وعن ابن عباس قال : { لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور . والمتخذين عليها المساجد والسرج } رواه أحمد في المسند وأهل السنن الأربعة وأبو حاتم بن حبان في صحيحه .

                وروى أيضا في صحيحه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لعن الله من اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } . وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا } . وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها } . وعن عبد الله بن عمرو قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن : الصلاة في المقبرة } رواه أبو حاتم في صحيحه وروى أيضا عن أنس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى بين القبور } وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 159 ] { الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام } رواه أحمد وأهل الكتب الأربعة وابن حبان في صحيحه . وقال الترمذي : فيه اضطراب ; لأن سفيان الثوري أرسله ; لكن غير الترمذي جزم بصحته لأن غيره من الثقات أسندوه وقد صححه ابن حزم أيضا . وفي سنن أبي داود { عن علي قال : إن خليلي نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل } . والآثار في ذلك كثيرة جدا .

                وقد ظن طائفة من أهل العلم أن الصلاة في المقبرة نهي عنها من أجل النجاسة ; لاختلاط تربتها بصديد الموتى ولحومهم وهؤلاء قد يفرقون بين المقبرة الجديدة . والقديمة وبين أن يكون هناك حائل أو لا يكون . والتعليل بهذا ليس مذكورا في الحديث ولم يدل عليه الحديث لا نصا ولا ظاهرا وإنما هي علة ظنوها والعلة الصحيحة عند غيرهم ما ذكره غير واحد من العلماء من السلف والخلف في زمن مالك والشافعي وأحمد وغيرهم : إنما هو ما في ذلك من التشبه بالمشركين وأن تصير ذريعة إلى الشرك ; ولهذا نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد . وقال : { إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير } . وقال : { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد } ونهى عن الصلاة إليها .

                [ ص: 160 ] ومعلوم أن النهي لو لم يكن إلا لأجل النجاسة . فمقابر الأنبياء لا تنتن بل الأنبياء لا يبلون وتراب قبورهم طاهر والنجاسة أمام المصلي لا تبطل صلاته والذين كانوا يتخذون القبور مساجد كانوا يفرشون عند القبور المفارش الطاهرة فلا يلاقون النجاسة ومع أن الذين يعللون بالنجاسة لا ينفون هذه العلة ; بل قد ذكر الشافعي وغيره النهي عن اتخاذ المساجد على القبور وعلل ذلك بخشية التشبه بذلك . وقد نص على النهي عن بناء المساجد على القبور غير واحد من علماء المذاهب ; من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ومن فقهاء الكوفة أيضا وصرح غير واحد منهم بتحريم ذلك وهذا لا ريب فيه بعد لعن النبي صلى الله عليه وسلم ومبالغته في النهي عن ذلك .

                واتخاذها مساجد يتناول شيئين : أن يبني عليها مسجدا أو يصلي عندها من غير بناء وهو الذي خافه هو وخافته الصحابة إذا دفنوه بارزا : خافوا أن يصلى عنده فيتخذ قبره مسجدا . وفي موطأ مالك عنه أنه قال : { اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد } روي ذلك مسندا ومرسلا وفي سنن أبي داود أنه قال : { لا تتخذوا قبري عيدا . وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني } .

                وما يرويه بعض الناس أنه صلى الله عليه وسلم صلى بمسجد الخليل أو صلى عند قبر الخليل فإن هذا الحديث غير ثابت عند [ ص: 161 ] أهل العلم وإن كان قد ذكر ذلك طائفة توصف بالصلاح ; بل الذي في الصحيحين { أنه صلى في بيت المقدس } . وهذا باب واسع . فمن المعلوم أنه لو كان الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من الدعاء عند غيرها لكان ينبغي أن تستحب الصلاة في تلك البقاع واتخاذها مساجد ; فإن الصلاة مقرونة بالدعاء ; ولهذا لا يقول مسلم إن الموضع الذي ينهى عن الصلاة فيه كأعطان الإبل أو المقبرة والمواضع النجسة يكون الدعاء فيه أفضل من الدعاء في غيره ; بل من قال ذلك : فقد راغم الرسول وجعل ما نهى عنه من الشرك وأسباب الشرك مماثلا أو مفضلا على ما أمر به من التوحيد وعبادة الله وحده .

                ومن هنا أدخل أهل النفاق في الإسلام ما أدخلوه فإن الذي ابتدع دين الرافضة كان زنديقا يهوديا أظهر الإسلام وأبطن الكفر ليحتال في إفساد دين المسلمين - كما احتال " بولص " في إفساد دين النصارى - سعى في الفتنة بين المسلمين حتى قتل عثمان وفي المؤمنين من يستجيب للمنافقين كما قال تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } ثم إنه لما تفرقت الأمة ابتدع ما ادعاه في الإمامة من النص والعصمة وأظهر التكلم في أبي بكر وعمر . وصادف ذلك قلوبا فيها جهل وظلم وإن لم تكن كافرة ; فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك [ ص: 162 ] ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف المعصوم .

                ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب ; حتى صنف كبيرهم ابن النعمان كتابا في " مناسك حج المشاهد " وكذبوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه وغيروا ملته . وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد فصاروا جامعين بين الشرك والكذب كما قرن الله بينهما في غير موضع كقوله : { واجتنبوا قول الزور } { حنفاء لله غير مشركين به } وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين ثم قرأ هذه الآية وقال تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } وقال تعالى : { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } { ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون } } .

                وهذا الحق لله كما ثبت عنه في الصحيح أنه { قال لمعاذ بن جبل : يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده ؟ قال : الله ورسوله أعلم قال : حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا . يا معاذ أتدري ما [ ص: 163 ] حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قال : الله ورسوله أعلم قال : حقهم عليه ألا يعذبهم } وقال تعالى : { وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون } ومثل هذا في القرآن متعدد : يصف أهل الشرك بالفرية ؟ ولهذا طالبهم بالبرهان والسلطان كما في قوله : { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } وفي قوله : { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } وقال : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } { منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين } { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون } { ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } .

                وقوله تعالى { ولا تكونوا من المشركين } { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } لأن التوحيد هو دين الله الذي بعث به الأولين والآخرين كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم } .

                ولهذا كان المتخذون القبور مساجد لما كان فيهم من الشرك ما فيهم قد فرقوا دينهم وكانوا شيعا . فتجد كل قوم يعظمون متبوعهم أو نبيهم ويقولون : الدعاء عند قبره يستجاب وقلوبهم معلقة به دون غيره من قبور الأنبياء والصالحين وإن كان أفضل منه كما أن عباد الكواكب والأصنام كل منهم قد اتخذ إلهه هواه فهو يعبد ما يألهه ; وإن كان غيره أفضل منه .

                ثم إنهم يسمون ذلك " زيارة " وهو اسم شرعي وضعوه على غير موضعه ومعلوم أن " الزيارة الشرعية " التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته : تتضمن السلام على الميت والدعاء له ; بمنزلة الصلاة على جنازته فالمصلي على الجنازة قصده الدعاء للميت والله تعالى يرحم الميت بدعائه ويثيبه هو على صلاته كذلك الذي يزور القبور على الوجه المشروع فيسلم عليهم ويدعو لهم يرحمون بدعائه [ ص: 165 ] ويثاب هو على إحسانه إليهم وأين قصد النفع للميت من قصد الشرك به ففي صحيح مسلم عن بريدة قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا للمقابر أن يقول قائلهم : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع نسأل الله لنا ولكم العافية } . وفي صحيح مسلم { عن عائشة : قلت كيف أقول يا رسول الله ؟ قال : قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون } .



                وتجوز : زيارة قبر الكافر لأجل الاعتبار ; دون الاستغفار له كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال : { إن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى . وأبكى من حوله وقال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزورها فأذن لي . فزوروا القبور فإنها تذكر الموت } وقد ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس قال : { كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها } .



                وأما زيارة القبور لأجل الدعاء عندها أو التوسل بها أو الاستشفاع بها ; فهذا لم تأت به الشريعة أصلا ; وكل ما يروى في هذا الباب مثل قوله : { من زارني وزار قبر أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة } و { من حج ولم يزرني فقد جفاني } و { من [ ص: 166 ] زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي } . فهي أحاديث ضعيفة ; بل موضوعة لم يرو أهل الصحاح والسنن المشهورة والمسانيد منها شيئا . وغاية ما يعزى مثل ذلك إلى كتاب الدارقطني وهو قصد به غرائب السنن ; ولهذا يروي فيه من الضعيف والموضوع ما لا يرويه غيره وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن مجرد العزو إليه لا يبيح الاعتماد عليه ومن كتب من أهل العلم بالحديث فيما يروى في ذلك يبين أنه ليس فيها حديث صحيح .

                بل قد كره مالك وغيره أن يقال : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومالك أعلم الناس بهذا الباب فإن أهل المدينة أعلم أهل الأمصار بذلك ومالك إمام أهل المدينة . فلو كان في هذا سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لفظ " زيارة قبره " لم يخف ذلك على علماء أهل مدينته وجيران قبره - بأبي هو وأمي .

                ولهذا كانت السنة عند الصحابة وأئمة المسلمين إذا سلم العبد على النبي صلى الله عليه وسلم . وصاحبيه : أن يدعو الله مستقبل القبلة ولا يدعو مستقبل الحجرة والحكاية التي تروى في خلاف ذلك عن مالك مع المنصور باطلة لا أصل لها . ولم أعلم الأئمة تنازعوا في أن السنة استقبال القبلة وقت الدعاء ; لا استقبال القبر النبوي . وإنما تنازعوا وقت السلام عليه . فقال الأكثرون : يسلم عليه مستقبل [ ص: 167 ] القبر . وقال أبو حنيفة : يسلم عليه مستقبل القبلة مستدبر القبر . وكان عبد الله بن عمر يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف . فإذا كان الدعاء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الأئمة فيه باستقبال القبلة كما روي عن الصحابة وكرهوا استقبال القبر فما الظن بقبر غيره وهذا مما يبين لك أن قصد الدعاء عند القبور : ليس من دين المسلمين .

                ومن ذكر شيئا يخالف هذا من المصنفين في المناسك أو غيرها فلا حجة معه بذلك ولا معه نقل عن إمام متبوع . وإنما هو شيء أخذه بعض الناس عن بعض ; لأحاديث ظنوها صحيحة وهي باطلة أو لعادات مبتدعة ظنوها سنة بلا أصل شرعي .

                ولم يكن في العصور المفضلة " مشاهد " على القبور وإنما ظهر ذلك وكثر في دولة بني بويه ; لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب كان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام وكان في بني بويه من الموافقة لهم على بعض ذلك ومن بدع الجهمية والمعتزلة والرافضة ما هو معروف لأهل العلم فبنوا المشاهد المكذوبة " كمشهد علي " - رضي الله عنه - وأمثاله . وصنف أهل الفرية الأحاديث في زيارة المشاهد والصلاة عندها والدعاء عندها وما يشبه ذلك . فصار هؤلاء الزنادقة وأهل البدع المتبعون لهم يعظمون المشاهد ويهينون المساجد [ ص: 168 ] وذلك : ضد دين المسلمين ويستترون بالتشيع . ففي الأحاديث المتقدمة المتواترة عنه من تعظيم الصديق ومن النهي عن اتخاذ القبور مساجد ما فيه رد لهاتين البدعتين اللتين هما أصل الشرك وتبديل الإسلام .

                ومما يبين ذلك أن الله لم يذكر " المشاهد " ولا أمر بالصلاة فيها وإنما أمر بالمساجد فقال تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها } ولم يقل : مشاهد الله ; بل قد { أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ولا تمثالا إلا طمسه } . ونهى عن اتخاذ القبور مساجد ولعن من فعل ذلك فهذا أمر بتخريب المشاهد لا بعمارتها سواء أريد به العمارة الصورية أو المعنوية . وقال تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ولم يقل في المشاهد وقال تعالى : { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } ولم يقل عند كل مشهد . وقال تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } ولم يقل مشاهد الله ; إذ عمار المشاهد هم مشركون أو متشبهون بالمشركين . إلى قوله : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله } ولم يقل إنما يعمر مشاهد الله .

                بل عمار المشاهد يخشون غير الله ; فيخشون الموتى ولا يخشون [ ص: 169 ] الله ; إذ عبدوه عبادة لم ينزل بها سلطانا ولا جاء بها كتاب ولا سنة كما قال الخليل عليه السلام في مناظرته للمشركين لما حاجوه وخوفوه آلهتهم : { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } قال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } وفي الصحيحين { عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح : { إن الشرك لظلم عظيم } } ؟ قال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء } قال زيد بن أسلم وغيره . بالعلم وقال تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } ولم يقل وأن المشاهد لله بل أهل المشاهد يدعون مع الله غيره .

                ولهذا لما لم يكن بناء المساجد على القبور التي تسمى " المشاهد " وتعظيمها من دين المسلمين ; بل من دين المشركين ; لم يحفظ ذلك فإن الله ضمن لنا : أن يحفظ الذكر الذي أنزله كما قال : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } فما بعث الله به رسوله من الكتاب [ ص: 170 ] والحكمة محفوظ وأما أمر المشاهد فغير محفوظ بل عامة القبور التي بنيت عليها المساجد إما مشكوك فيها وإما متيقن كذبها مثل القبر الذي بكرك الذي يقال : إن به نوح والذي بظاهر دمشق الذي يقال إنه قبر أبي بن كعب والذي من الناحية الأخرى الذي يقال : إنه قبر أويس القرني والقبور التي هناك التي يظن أنها قبر عائشة أو أم سلمة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم أو أم حبيبة أو قبر علي الذي بباطنة النجف أو المشهد الذي يقال : إنه على الحسين بالقاهرة والمشهد الذي بحلب وأمثال هذه المشاهد ; فهذه كلها كذب باتفاق أهل العلم .

                وأما القبر الذي يقال : إنه " قبر خالد بن الوليد " بحمص والذي يقال : إنه قبر أبي مسلم الخولاني بداريا وأمثال ذلك : فهذه مشكوك فيها وقد نعلم من حيث الجملة أن الميت : قد توفي بأرض ولكن لا يتعين أن تلك البقعة مكان قبره : كقبر بلال ونحوه بظاهر دمشق وكقبر فاطمة بالمدينة وأمثال ذلك . وعامة من يصدق بذلك يكون علم به : إما مناما وإما نقلا لا يوثق به وإما غير ذلك . ومن هذه القبور ما قد يتيقن ; لكن لا يترتب على ذلك شيء من هذه الأحكام المبتدعة .

                ولهذا كان السلف يسدون هذا الباب ; فإن المسلمين لما فتحوا تستر وجدوا هناك سرير ميت باق . ذكروا أنه " دانيال " [ ص: 171 ] ووجدوا عنده كتابا فيه ذكر الحوادث وكان أهل تلك الناحية يستسقون به . فكتب في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر . فكتب إليه عمر أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا ثم يدفن بالليل في واحد منها ويعفى قبره ; لئلا يفتتن الناس به . وهذا كما نقلوا عن عمر أنه بلغه : أن أقواما يزورون الشجرة التي بويع تحتها بيعة الرضوان ويصلون هناك فأمر بقطع الشجرة . وقد ثبت عنه أنه كان في سفر فرأى قوما ينتابون بقعة يصلون فيها فقال : ما هذا ؟ فقالوا : هذا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ومكان صلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد إنما هلك بنو إسرائيل بهذا . من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض .

                واعلم أنه ليس مع أحد من هؤلاء ما يعارض به ذلك ; إلا حكاية عن بعضهم أنه قال : إذا كانت لكم إلى الله حاجة ; فادعوه عند قبري أو قال : قبر فلان هو الترياق المجرب وأمثال ذلك من هذه الحكايات التي قد تكون صدقا وقد تكون كذبا وبتقدير أن يكون صدقا : فإن قائلها غير معصوم . وما يعارض النقل الثابت عن المعصوم بنقل غير ثابت عن غير معصوم إلا من يكون من الضالين إخوان الشياطين . وهذا من أسباب الشرك وتغيير الدين .

                [ ص: 172 ] وأما قول القائل : إن الحوائج تقضى لهم بعض الأوقات فهل يسوغ ذلك لهم قصدها ؟ فيقال : ليس ذلك مسوغ قصدها لوجوه : أحدها : أن المشركين وأهل الكتاب يقضى كثير من حوائجهم بالدعاء عند الأصنام وعند تماثيل القديسين والأماكن التي يعظمونها ; وتعظيمها حرام في زمن الإسلام . فهل يقول مسلم : إن مثل ذلك سوغ لهم هذا الفعل المحرم بإجماع المسلمين وما تجد عند أهل الأهواء والبدع من الأسباب - التي بها ابتدعوا ما ابتدعوه - إلا تجد عند المشركين وأهل الكتاب من جنس تلك الأسباب ما أوقعهم في كفرهم وأشد ومن تدبر هذا : وجده في عامة الأمور فإن البدع مشتقة من الكفر وكمال الإيمان : هو فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله فإذا ترك بعض المأمور وعوض عنه ببعض المحظور كان في ذلك من نقص الإيمان بقدر ذلك .

                والبدعة لا تكون حقا محضا ; إذ لو كانت كذلك لكانت مشروعة ولا تكون مصلحتها راجحة على مفسدتها ; إذ لو كانت كذلك لكانت مشروعة ولا تكون باطلا محضا لا حق فيه ; إذ لو كانت كذلك لما اشتبهت على أحد وإنما يكون فيها بعض الحق وبعض الباطل . وكذلك دين المشركين وأهل الكتاب فإنه لا يكون كل ما يخبرون به كذبا وكل ما يأمرون به فسادا ; بل لا بد أن يكون في خبرهم صدق [ ص: 173 ] وفي أمرهم نوع من المصلحة ومع هذا فهم كفار بما تركوه من الحق وأتوه من الباطل .

                الوجه الثاني : أن هذا الباب يكثر فيه الكذب جدا ; فإنه لما كان الكذب مقرونا بالشرك كما دل عليه القرآن في غير موضع والصدق مقرونا بالإخلاص فالمؤمنون أهل صدق وإخلاص والكفار أهل كذب وشرك وكان في هذه المشاهد من الشرك ما فيها : اقترن بها الكذب من وجوه متعددة .

                منها : دعوى أن هذا قبر فلان المعظم أو رأسه ; ففي ذلك كذب كثير .

                والثاني : الإخبار عن أحواله بأمور يكثر فيها الكذب .

                والثالث : الإخبار بما يقضى عنده من الحاجات فما أكثر ما يحتال المعظمون للقبر بحيل يلبسون على الناس أنه حصل به خرق عادة أو قضاء حاجة وما أكثر من يخبر بما لا حقيقة له وقد رأينا من ذلك أمورا كثيرة جدا .

                الرابع : الإخبار بنسب المتصلين به مثل كثير من الناس يدعي الانتساب إلى قبر ذلك الميت إما ببنوة . وإما بغير بنوة حتى رأيت [ ص: 174 ] من يدعي أنه من ولد إبراهيم بن أدهم مع كذبه في ذلك ; ليكون سادن قبره وأما الكذب على العترة النبوية فأكثر من أن يوصف . فبنو عبيد - الذين يسمون القداح - الذين كانوا يقولون إنهم فاطميون وبنو القاهرة وبقوا ملوكا : يدعون أنهم علويون : نحو مائتي سنة وغلبوا على نصف مملكة الإسلام حتى غلبوا في بعض الأوقات على بغداد وكانوا كما قال فيهم أبو حامد الغزالي : ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض . وقد صنف القاضي أبو بكر بن الطيب كتابه الذي سماه " كشف الأسرار وهتك الأستار " في كشف أحوالهم . وكذلك ما شاء الله من علماء المسلمين كالقاضي أبي يعلى وأبي عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني .

                وأهل العلم كلهم يعلمون أنهم لم يكونوا من ولد فاطمة ; بل كانوا من ذرية المجوس وقيل من ذرية يهودي وكانوا من أبعد الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته ودينه : باطن دينهم مركب من دين المجوس والصابئين . وما يظهرون من دين المسلمين : هو دين الرافضة . فخيار المتدينين منهم هم الرافضة . وهم جهالهم وعوامهم وكل من دخل معهم يظن أنه مسلم ويعتقد أن دين الإسلام حق . وأما خواصهم : من ملوكهم وعلمائهم فيعلمون أنهم خارجون من دين الملل كلهم من دين المسلمين واليهود والنصارى وأقرب الناس [ ص: 175 ] إليهم الفلاسفة ; وإن لم يكونوا أيضا على قاعدة فيلسوف معين .

                ولهذا انتسب إليهم طوائف المتفلسفة فابن سينا وأهل بيته من أتباعهم وابن الهيثم وأمثاله من أتباعهم ومبشر بن فاتك ونحوه من أتباعهم وأصحاب " رسائل إخوان الصفا " صنفوا الرسائل على نحو من طريقتهم ومنهم . الإسماعيلية وأهل دار الدعوة في بلاد الإسلام . ووصف حالهم ليس هذا موضعه .

                وإنما القصد أنهم كانوا من أكذب الناس وأعظمهم شركا وأنهم يكذبون في النسب وغير النسب ; ولذلك تجد أكثر المشهدية الذين يدعون النسب العلوي كذابين ; إما أن يكون أحدهم مولى لبني هاشم أو لا يكون بينه وبينهم لا نسب ولا ولاء ولكن يقول أنا علوي وينوي علوي المذهب ويجعل عليا - رضي الله عنه وعن أهل بيته الطاهرين - كان دينه دين الرافضة فلا يكفيه هذا الطعن في علي حتى يظهر أنه من أهل بيته أيضا فالكذب فيما يتعلق بالقبور أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى .

                الخامس : أن الرافضة أكذب طوائف الأمة على الإطلاق وهم أعظم الطوائف المدعية للإسلام غلوا وشركا ومنهم كان أول من ادعى الإلهية في القراء وادعى نبوة غير النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 176 ] كمن ادعى نبوة علي وكالمختار بن أبي عبيد الله ادعى النبوة ثم يليهم الجهال كغلاة ضلال العباد وأتباع المشايخ ; فإنهم أكثر الناس تعظيما للقبور بعد الرافضة وأكثر الناس غلوا بعدهم وأكثر الطوائف كذبا وكل من الطائفتين فيها شبه من النصارى . وكذب النصارى وشركهم وغلوهم معلوم عند الخاص والعام وعند هذه الطوائف من الشرك والكذب ما لا يحصيه إلا الله .

                الوجه الثالث : أنه إذا قضيت حاجة مسلم وكان قد دعا دعوة عند قبره فمن أين له أن لذلك القبر تأثيرا في تلك الحاجة ؟ وهذا بمنزلة ما ينذرونه عند القبور أو غيرها من النذور : إذا قضيت حاجاتهم . وقد ثبت في الصحيحين : عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه : نهى عن النذر وقال : إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل } . وفي لفظ { إن النذر لا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قدر له ; ولكن يلقيه النذر إلى القدر قدرته } فإذا ثبت بهذا الحديث الصحيح : أن النذر ليس سببا في دفع ما علق به من جلب منفعة أو دفع مضرة مع أن النذر جزاء تلك الحاجة ويعلق بها ومع كثرة من تقضى حوائجهم التي علقوا بها النذور ; كانت القبور أبعد عن أن تكون سببا في ذلك . ثم تلك الحاجة : إما أن تكون قد قضيت بغير دعائه وإما أن تكون قضيت بدعائه . فإن كان : الأول فلا كلام وإن [ ص: 177 ] كان الثاني : فيكون قد اجتهد في الدعاء اجتهادا لو اجتهده في غير تلك البقعة أو عند الصليب لقضيت حاجته ; فالسبب هو اجتهاده في الدعاء ; لا خصوص القبر .

                الوجه الرابع : أنه إذا قدر أن للقبور نوع تأثير في ذلك سواء كان بها كما يذكره المتفلسفة ومن سلك سبيلهم في ذلك بأن الروح المفارقة : تتصل بروح الداعي فيقوى بذلك كما يزعمه ابن سينا وأبو حامد وأمثالهما في زيارة القبور أو كان بسبب آخر . فيقال : ليس كل سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعا بل ولا مباحا وإنما يكون مشروعا إذا غلبت مصلحته على مفسدته . أما إذا غلبت مفسدته فإنه لا يكون مشروعا ; بل محظورا وإن حصل به بعض الفائدة .



                ومن هذا الباب تحريم السحر مع ما له من التأثير وقضاء بعض الحاجات وما يدخل في ذلك من عبادة الكواكب ودعائها واستحضار الجن . وكذلك الكهانة والاستقسام بالأزلام ; وأنواع الأمور المحرمة في الشريعة مع تضمنها أحيانا نوع كشف أو نوع تأثير .

                وفي هذا تنبيه على جملة الأسباب التي تقضى بها حوائجهم . وأما [ ص: 178 ] تفصيل ذلك فيحتاج إلى بسط طويل كما يحتاج تفصيل أنواع السحر وسبب تأثيره وما فيه من السيميا وتفصيل أنواع الشرك وما دعا المشركين إلى عبادة الأصنام ; فإن العاقل يعلم أن أمة من الأمم لم تجمع على أمر بلا سبب والخليل عليه السلام يقول : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } ومن ظن في عباد الأصنام : أنهم كانوا يعتقدون أنها تخلق العالم أو أنها تنزل المطر أو تنبت النبات أو تخلق الحيوان أو غير ذلك ; فهو جاهل بهم ; بل كان قصد عباد الأوثان لأوثانهم من جنس قصد المشركين بالقبور للقبور المعظمة عندهم وقصد النصارى لقبور القديسين يتخذونهم شفعاء ووسائط ووسائل . بل قد ثبت عندنا بالنقل الصحيح أن من مساجدي القبور من يفعل بها أكثر مما يفعله كثير من عباد الأصنام . ويكفي المسلم أن يعلم أن الله لم يحرم شيئا إلا ومفسدته محضة أو غالبة . وأما ما كانت مصلحته محضة أو راجحة : فإن الله شرعه ; إذ الرسل بعثت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها . والشرك كما قرن بالكذب قرن بالسحر في مثل قوله تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } { أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا } والجبت السحر والطاغوت الشيطان والوثن . وهذه حال كثير من المنتسبين إلى الملة يعظمون السحر والشرك ويرجحون الكفار على كثير من المؤمنين المتمسكين بالشريعة . والورقة لا تحتمل أكثر من هذا . والله أعلم .




                الخدمات العلمية