الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( فائدة ) : إذا شهد الفاسق المستخفي بفسقه الذي يتعير بنسبته إليه فردت شهادته فأعادها بعد العدالة لم تقبل ; لأن له غرضا طبعيا في نفي الكذب عن شهادته ، وإن لم يكن الفاسق كذلك فأعاد الشهادة فوجهان .

فإن تهمته ضعيفة لضعف غرضه ، ولو شهد لمكاتبه أو على عدوه فردت شهادته فأعادها بعد العتق والصداقة فوجهان لضعف التهمة .

فإن قيل : متى يحكم بشهادة الفاسق إذا تاب مع كونه مدعيا للتوبة ، فإن ركنيها ، وهما الندم والعزم من أعمال القلوب ؟ قلنا : القاعدة أن ما لا يعلم إلا من جهة الإنسان ، فإنا نقبل قوله فيه ، فإذا أخبر المكلف عن نيته فيما تعتبر فيه النية ، أو أخبر الكافر عن إسلامه ، أو المؤمن عن ردته ، أو أخبرت المرأة عن حيضها أو أخبر الكتابي عن نيته أو المدين عن دفع دينه ، فإنا نقبل ذلك كله وتجري عليه أحكامه ; لأنا لو لم نقبله لتعطلت مصالح هذا الباب ; لتعذر إقامة الحجج عليها ، ولذلك قبلنا قول المرأة في الإجهاض .

وأما التائب فلا يقبل قوله مع توبته حتى نحكم بعدالته ، ولا بد أن تمضي مدة طويلة يعلم في مثلها صدقه بملازمته للمروءة واجتناب الكبائر وتنكب الإصرار على الصغائر ، فإذا انتهى إلى حد يغلب على الظن [ ص: 40 ] عدالته ، كما يغلب على الظن عدالة غيره من العدول قبلنا شهادته لإفادتها الظن الذي يفيده قول غيره من العدول ، وقد اختلف في مقدار هذه المدة ، فقدرها بعضهم بستة أشهر وذلك تحكم ، والمختار أن ذلك يختلف باختلاف ما ظهر من التائبين من التلهف والتأسف ، والتندم ، والإقبال على الطاعات ، وحفظ المروآت ، والتباعد عن المعاصي والمخالفات ، ويدل على ذلك قوله تعالى - في القذفة : { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } فشرط في قبول الشهادة بعد التوبة الإصلاح ، وليس هذا شرطا في التوبة في نفس الأمر ، فإن التوبة إذا تحققت بنيت عليها الأحكام في الباطن ، وأما في الظاهر فلا بد من اختباره واستبرائه حتى يظهر صدقه في دعواه التوبة ، فتعود إليه في الباطن كل ولاية تشترط فيها العدالة ، ولا يعود شيء من ذلك في الظاهر إلا بعد استبرائه .

فإن قيل : كيف قال الشافعي رحمه الله توبة القاذف في إكذابه نفسه ، مع أن الإكذاب ليس ركنا من أركان التوبة ؟ قلنا : قد خفي هذا على كثير من أصحاب الشافعي حتى تأولوه بتأويل لا يصح ، والذي ذكره رحمه الله ظاهر عائد إلى الإقلاع عن الذنب الذي تاب منه ، فإنا إنما فسقناه لكونه كاذبا في الظاهر ، فلو لم يكذب نفسه لكان مصرا على الذنب الذي شرط الإقلاع عنه ، فإذا أكذب نفسه ، فقد أقلع عن الذنب الذي فسقناه ; لأجله .

فإن قيل : إن كان كاذبا فهو فاسق ، وإن كان صادقا فهو عاص ; إذ لا يجوز تعيير من تحقق زناه بالقذف فكيف ينفعه تكذيبه نفسه مع كونه عاصيا بكل حال ؟ قلنا : ليس قذفه ، وهو صادق كبيرة موجبة لرد شهادته بل ذلك من الصغائر التي لا تحرم الشهادات ولا الروايات .

[ ص: 41 ] فإن قيل : إذا كان صادقا فكيف يجوز له أن يكذب نفسه فيما هو صادق فيه ؟ قلنا الكذب للحاجة جائز في الشرع ، كما يجوز كذب الرجل لزوجته ، وفي الإصلاح بين المختصمين ، وفي هذا الكذب مصالح .

أحدها : الستر على المقذوف ، وتقليل أذيته وفضيحته عند الناس .

الثانية : قبول شهادة القاذف بعد الاستبراء .

الثالثة : عوده إلى الولايات التي تشترط فيها العدالة ; كنظره في أموال أولاده وإنكاحه لمولياته .

الرابعة : تعرضه للولايات الشرعية والمناصب الدينية .

التالي السابق


الخدمات العلمية